إن النظرة السطحية لقضية الإمامة والتي ورثناها من فقهاء القوم تحول دون فهم مسألة العصمة . وإن التحرر من هذه النظرة سوف يؤدي إلى تقبل فكرتها . فطالما لما ظل المسلم يعتقد أن الحكام هم الأئمة وأنه لا بأس بفسقهم وفجورهم وأن الرسول قد بشر بهم على هذا الحال فكيف له أن يتصور قضية العصمة ؟ . .
وإذا كان الطرح المقصود بالإمامة مغيبا ولا يفقه المسلم عنه شيئا وليس أمامه سوى هذا النموذج الذي وضعه الفقهاء فكيف له أن يستوعب هذه المسألة ؟ . .
فقه مسألة العصمة كان يسبقه فقه أطروحة القوم في الإمامة ثم فقه قضية الإمامة عند آل البيت وهو ما غاب عني في بداية بحثي حول هذه المسألة . . هذا النموذج السئ من الأئمة المطروح في كتب القوم يفرض الشك ويحتم وجود نموذج آخر .
فليس من المعقول أن يرتهن مستقبل الإسلام بهذا النموذج الفاسد ، والفقهاء عندما ربطوا قضية الإمامة بالحكام إنما وضعوا الأمة بين خيارين :
الأول : أن تتلقى الأمة دينها من الحكام . .
والثاني : أن تتلقى دينها منهم . .
وقد اختارت الأمة الخيار الثاني وإن كانت الحقيقة أنها ألزمت بالخيار الأول لكون الفقهاء قد جعلوا الدين في خدمة الحكام . . وكلا الطرفين : الحكام والفقهاء عجزا عن سد الفراغ الذي حدث بغياب الإمام الشرعي أو النموذج الحقيقي للإمامة . . ويتطلب فهم العصمة أيضا فقه دور الإمام الشرعي : هل هو الحكم والرياسة . أم التعبير عن الإسلام والتحدث باسمه . أم كلاهما معا ؟ . .
لو كان هناك امتداد للرسالات الإلهية بعد الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لكان من الممكن أن نتبنى الإجابة الأولى وهي أن دور الإمام هو حكم الأمة ورياستها .
إلا أنه بما أن الرسول هو خاتم الرسل فلا بد أن يكون منصب الإمام له اعتبارات ودور آخر وهو سد الفراغ الذي حدث بغياب الرسول والحيلولة دون ارتداد الناس عن الإسلام . . إن الإمام هو النموذج النبوي الذي تستظل به الأمة من بعد الرسول .
وما دام هو نموذجا نبويا فلا بد أن يكون فيه من خصال النبوة وخصائصها . أما إذا اعتبرنا الإمامة فكرة عائمة تنطبق على أي شخص كما يقول فقهاء القوم فإن هذا يعني الاستهانة بها وبدورها . وإذا كانت الإمامة تنطبق على الفاسق فإنها بهذا تكون قد أفرغت من دورها . إذ ما هو الدور الذي سوف يلعبه في واقع الأمة إمام فاسق ؟ .
فقهاء القوم بالإضافة إلى عزلهم آل البيت عن الإمامة وتنصيب الحكام أئمة مكانهم عزلوا الإمامة عن الإسلام أيضا . فأصبح الحكم في أيدي الساسة والدين في أيديهم وبالتالي شتت الإسلام بين هواهم وهوى الحكام والضحية هم المسلمون . .
وما دام قد تبين أن دور الإمام هو حفظ الدين والتعبير عنه في الأساس من أجل إقامة الحجة على الناس بعد الرسول فهذا يتطلب توافر صفة العصمة في الإمام .
فلو تساوى مع بقية القوم لأمكن انحرافه عن الخط النبوي وبالتالي تفسد مهمته . . لو تساوى مع القوم لما كان هناك ما يميزه عن الآخرين وبالتالي يفقد خاصية القدوة . لو تساوى مع القوم لما كان الرسول هو خاتم الرسل .
إذ أوجب الأمر وجود رسل آخرين بهم خصائص ومميزات ويتحلون بالعصمة حتى تقنع بهم الناس وتتلقى منهم . إن أمة العرب كبقية الأمم لا بد وأن ينطبق عليها حال الأمم السابقة من الردة والانحراف بعد الرسل .
ولما كان الله سبحانه يرسل في الأمم السابقة من يمنع هذه الردة ويحول دون هذا الانحراف . فلا بد أن يكون في أمة محمد بعد الرسول من يقوم بهذا الدور . . وهذه هي مهمة الإمام . وهذا هو دوره . . وما أن تبينت لي هذه الحقيقة حتى تضاءلت أمامي مسألة العصمة وانتقلت بالتالي من دائرة الاستبعاد والشك إلى دائرة القبول واليقين . .
لقد اكتشفت أن العصمة كامنة في داخل كل فرد . فكل فرد منا معصوم . غير أن درجة العصمة تتفاوت من فرد لفرد على قدر ما يتحلى به من إيمان وتقوى وخلق . . فهذا الذي يتجه نحو المسجد ليؤدي الصلاة مارا بدور اللهو دون أن يدخلها
ماضيا في طريقه نحو المسجد هو معصوم . ودرجة عصمته حالت بينه وبين دخول دور اللهو ودفعت به لدخول المسجد . . وهذا الذي يقف صامدا أمام المغريات فلا يزني ولا يسرق ولا يشرب الخمر هو معصوم وهذه المرأة العفيفة التي أحصنت
فرجها وصمدت أمام الفتن هي معصومة . . ومثل هذه النماذج كثير نراها ونعايشها دون أن ندرك أن مثل هذه المواقف إنما هي صورة من صور العصمة الحية المترجمة واقعيا أمام أعيننا . . ومن الممكن لأي فرد أن يرفع من درجة عصمته وذلك بزيادة قدر الالتزام بتعاليم وأحكام الدين .
فإذا أكثر من الصلوات وذكر الله فقد زاد من نسبة الوقف المستهلك في الخير والعمل الصالح وقلل من نسبة الوقت المستهلك في الشر والعمل الفاسد . . وإذا كان الفرد قد عصم يده من السرقة وكانت خطاه في سبيل الله ولسانه رطب بذكره فهو على
درجة كبيرة من العصمة . . والأب إذا أحسن تأديب ولده فقد عصمه من الانحراف . وبقدر جرعة التربية والأدب التي يتلقاها الولد من والده بقدر عصمته . . فالأب المعصوم يعصم أبناءه . . والأب الفاسد يفسد أبناءه . .
فإذا كان هذا هو حال الأفراد فكيف حال الأئمة ؟ . .
لا شك أن درجة عصمة الإمام هي أعلى بكثير من درجة عصمة الأفراد العاديين وذلك لعدة اعتبارات هي : أن الإمام اختبار إلهي فالله اختار الرسول والرسول اختار الإمام . .
- أن الإمام تربى في بيت النبوة . .
- أن الإمام على درجة عالية من التقوى والعلم .