12 - تحت راية الحق مناقشة موضوعية مع أحمد أمين في الإسلام ----------------------------- ص 164 ----------------------------- بسم الله الرحمن الرحيم ----------------------------- ص 165 -----------------------------
الحمد لله القائل ولتكن منكم أمة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر والقائل في محكم كتابه : ( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ) والصلاة والسلام على سيد الأنبياء محمد صلى الله عليه وآله وسلم القائل ( من سب عليا فقد سبني ومن سبني فقد سب الله تعالى ) ، والناهي عن التباغض والتشاحن في قوله : ( لا تباغضوا ولا تدابروا ولا تنافسوا وكونوا عباد الله إخوانا ) وهو الذي شدد النكير على المفرقين بين أمته حيث قال : ( وإياكم وذات البين فإن ذات البين هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر وإنما تحلق الدين ) .
بهذا المنهج الإسلامي الذي وضعه القرآن والحديث أساسا لبناء المجتمع الإسلامي السليم والشخصية الإسلامية السليمة نفتتح تصدير هذا الكتاب فيما وقع فيه أحمد أمين من أخطاء علمية كانت سببا في إحداث هذا الصدع في صرح الوحدة الإسلامية ، في الوقت الذي يحتاج فيه المسلمون إلى العوامل والحوافز المثبتة لكيانهم بما يشد عضدهم وينفي عناصر السخيمة والبغضاء التي فرقت بينهم وأضعفت من وحدتهم بالأمس البعيد - في عام 1955 -
وقبل أن أبدا الكتابة في التقريب بين شقي أمة سيد الأنبياء والمرسلين كنت أخرجت كتابا تحت عنوان : مع أحمد أمين : في فصول من كتابه : ( فيض الخاطر ) تعرضت فيه - في إيجاز - لهذه الأخطاء التاريخية والعقيدية التي وقع فيها أحمد أمين فريسة للأهواء والرأي بغير علم شوهت الكثير من وجه
ما كتبه في التاريخ والعقائد دون أن يهتدي بهدي المنهج العلمي الحديث فيما سجله ودونه وعلة ذلك أن أحمد أمين خرج عن الخط الذي هئ له بعد تخرجه من مدرسة القضاء الشرعي وبعد أن عمل قاضيا في المحاكم الشرعية حدث ذلك حين اتصل بالدكتور طه حسين ، واشتغل بالتدريس في كلية الآداب في بدء نشأتها ، ولقد اعترف أحمد أمين نفسه بهذا التعبير المفاجئ في مجرى حياته العلمية وعبر عن ذلك .
فقد اصطدم ببيئة جديدة لم يألفها من قبل ، تغاير كل المغيرة ببيئة مدرسة القضاء الشرعي في موادها ومناهجها ، ومسلك طلابها كما تختلف كل الاختلاف في وسائل البحث وحرية الفكر وكان الإحساس بالنقص سببا قويا في تلقف كل ما هو جديد يلمسه في الجامعة المصرية وكان صديقه طه حسين في ذلك همزة الوصل التي ربطت بين الأساليب القديمة والمناهج الحديثة .
وهذا الجديد الذي أخذه أحمد أمين عن صديقه كثير جدا ، لكن هذا الكثير يدور حول أربع نقاط رئيسية : منهج الشك في القديم ، والصورة الفنية في الأسلوب ، واستقصاء مادة البحث ، وتطبيق المنهج العلمي في تناول الموضوعات وقد نجح أحمد أمين في اثنتين من هذه النقاط ، وأخفق في اثنتين أما اللتان حققهما في أبحاثه ومؤلفاته فهما استقصاء مادة البحث ، والصورة الفنية التي عالجها في مقالاته الأدبية .
وأما اللتان أخفق فيها منهج في دراسة النصوص ، وتطبيق المنهج العلمي في تناول الموضوعات وسبب هذا الإخفاق في هاتين مرده أنه لم يمر بالتجربة التي مر بها صديقه في صورة مكتملة وأنه كان ناقلا أكثر منه ممارسا أو محققا ولا يعنينا في هذا المجال الرجوع إلى أصول هذه النقاط الأربع في مجال مناهج البحث العلمي ، لأن طه حسين نفسه الذي كان بمنزلة الوسيط في تطبيق المناهج لم يكن مخترعا لشئ منها ، بل وأكثر من ذلك لم يكن بمنزلة الوسيط في تطبيق المناهج لم يكن مخترعا لشئ منها ، بل وأكثر من ذلك لم يكن شئ منها نابعا من ذاته ، إذا استثنينا ( الصورة الفنية ) في الأداء الأدبي التي جاءت إليه بفضل الممارسة الطويلة ومعايشة التجربة الأدبية .
ومعنى ذلك : أن طه حسين وإن كان يبدو أصيلا في الصورة الفنية إلا أنه مناهج البحث كان على العكس من ذلك ، يستعير في أكثر أبحاثه الأدبية أقوال المستشرقين ثم يحاول بأسلوبه أن يخدع رقة دينه لأن الموضوعية في البحث العلمي شئ والدين والعقيدة شئ آخر .
ومهما يكن من أمر فإن مناهجه العلمية مستعارة منهم ، وأكثر من ذلك أنه كثيرا ما يستعير أقوال القدماء ونظرياتهم ثم يصوغها مصبوغة بصبغته الأدبية ليبدو ذلك عند الأغرار وغير المعمقين أنها من نتاجه الفكري وهي ليست أكثر من ثوب مستعار أخذه عن القدماء من رجال علوم الأدب وهذا واضح فيما أفاده من نظرية الانتحال أخذ الكثير من أقوال ابن سلام في ( طبقات الشعراء ) وأقوال أبي عمرو بن العلاء فيما يدور حول كمية الشعر والنثر التي وصلت
الأمر الذي نرجوه في القريب العاجل أن نوضحه للباحثين في كتابنا : ( مع طه حسين : بين نظرياته المستعارة وآرائه النسبية ) .
وهكذا يتبين للقارئ أن كل ما جاء عن طه حسين من أحكام في مجال الأدب بعامة والشعر بخاصة إنما هو أحكام نسبية ليست قطعية الدلالة أو بمعنى آخر ليست أحكاما مطلقة يقاس عليها في نظر منهجنا العلمي الحديث وإذا عرف القارئ ذلك عن طه حسين فإنه لا يعزب عليه أن يقف على تفاهة الأحكام العلمية التي أطلقها أحمد أمين في ( فجر الإسلام وضحاه ، وظهره ) فهو وإن كان ناقلا أمينا في نقل النصوص إلا أن نقله ليست له قيمة علمية ذات بال ، حيث كان يجمع بين الآراء المتناقضة فيما ينقل دون أن يشير إلى موضع التناقض فهو يستطيع أن يستقصي النصوص في الفكرة الواحدة من حياة الفكر الإسلامي ولكنه لا يستطيع أن يرتبها الترتيب التاريخي الدقيق ، وإن استطاع أحيانا أن يرقبها الترتيب التاريخي الدقيق ، فإنه لا يستطيع أن يرد المزيف منها أو يكشف عن المتناقضات أو يتعمق القرائن التاريخية ومن هنا وقع في أخطاء كثيرة ولا سيما حاول في فجر الإسلام .
دراسة المذاهب والعقائد ، وحينما حاول أن يستعرض الأحزاب السياسية ، والمذاهب الفقهية في الصدر الأول من الإسلام ومن هنا كان أكثر ما كتبه عن المذاهب الإسلامية - التي لها خطرها كالمعتزلة ، والشيعة ، والمرجئة ، والخوارج تصور للقارئ الإسلامي مجموعة من المتناقضات التي لا تليق بباحث يحتل الصدر الأول من أساتذة الجامعة وقد كان في ذلك أشبه بحاطب ليل يجمع الدر إلى المخشلبة .
هذا بالإضافة لم يتعمق هذه المذاهب التعمق التاريخي ، فلم يستطع - من قبيل المثالي - أن يميز بين المخالفين ؟ من الشيعة والمعتدلين منهم فالإمامية والزيدية من المذاهب الشيعية المعتدلة يختلفون كل الاختلاف عن الكيسانية والمؤلهة والحلولية من المذاهب المتطرفة وأن إصدار الأحكام السريعة على المذاهب الإسلامية من حيث التكفير أو التفسيق ليس بالأمر اليسير الذي يرسل فيه القول على عواهنه ، بل هي مسؤولية ضخمة للغاية ، وحسابها من أشد الأمور عند الخالق سبحانه وقد أبان لنا الرسول الأعظم صل الله عليه وآله في أكثر من موضع أن تكفير المسلم كقتله سواء بسواء .
وما انتهى إليه علم المنهج العلمي الحديث - أنه لا يكفر في الصدر الأول من الإسلام إلا صنفان من المذاهب وهما : المؤلهة والمكفرة ونعني بالمؤلهة الذين ألهوا عليا ، والمكفرة هم شذاذ الخوارج الذين كفروه ولا يدخل في المؤلهة عبد الله بن سبأ المزعوم ، فإنه أشبه بالشخصية الخيالية التي وقع في تصورها الكثيرون من سذج المؤرخين كسيف بن عمر التميمي ونسبوا إليه كل ما يسئ إلى طوائف الشيعة وقد أفصحنا عن الكثير مما يمت إلى هذه الشخصية في مقدمتنا لكتاب : ( عبد الله بن سبأ ) للمحقق الكبير السيد مرتضى العسكري .
أما في العصر الحديث حتى هذه الفترة المعاصرة فلا نستطيع بحال أن ندخل في دائرة الكفر غير طائفتين تنتسبان إلى الإسلام وليستا من الإسلام في شئ ، وهما : البهائية والقاديانية والأولى تنسب إلى الباب الذي ظهر في إيران ، والثانية ديانة صنعها الإنجليز في الهند تحريم على المسلمين ممارسة الجهاد وتنسب إلى غلام أحمد القادياني .
فهل تحرى الأستاذ أحمد أمين هذه الأصول التي ذكرناها ؟ وهل تورع في إصدار الأحكام على المعتدلين من طوائف الشيعة ؟ وهل درس الإمامية كمذهب من المذاهب الشيعية الدراسة الدقيقة الممحصة التي تجنبه والوقوع في الخطأ وتحفظه من الغلو والزيغ في إصدار الأحكام ؟
أظن الإجابة : لا ، بالتأكيد فهو في هذا - كما أشرنا في كتابنا : ( مع أحمد أمين ) الذي أصدرناه عام 1955 م - لم يفرق التفرقة العلمية بين الإمامية والمؤلهة كما لم يفرق بين أئمة بيت النبوة من آل الحسين بن علي سلام الله عليهما وبين أتباعهم وشيعتهم بل أكثر من ذلك لم يميز التمييز الدقيق بين المعتدلين من هؤلاء الأتباع وبين المتعصبين الذين يتناولون عقائد غيرهم بألسنة حداد .
وهكذا حدثت الفوضى في كتابات أستاذنا ولم تمنعنا أستاذيته أن نقول كلمة الحق لأن الحق جوهر باق أولى بالإتباع ، والتلمذة عرض زائل لا ينفع في شئ إلا أن يكون الجوهر سليما مبرأ من العيوب والأخطاء . ونحمد الله في - هذه المناسبة - أن الله حفظنا من نظام التبني الذي كان يرسمه بعض الأساتذة حين يختارون من تلاميذهم من يوافق أهواءهم أو يساير ركب المحسوبيات والشفاعات .
فلا إصر علينا في ذلك يحول بيننا وبين منطلق الحق ، وقد حال الله بيننا وبين كل تبعية تربطنا بغير الله تعالى ، كما حال بيننا وبين أن نحب من نحب إلا لله وأن نبغض من نبغض إلا له .
والرسول عليه السلام يقول : ( أفضل الأعمال الحب في الله والبغض في الله ) وهذا الجوهر الإسلامي الأصيل في إصدار الأحكام هو عين ما يترنم به النقاد المعاصرون من عبارة : ( النظرة الموضوعية ) حين يصدرون أحكامهم في كل شئ ولنتابع الآن القضايا الخطيرة التي تجنى فيها أحمد أمين على إخوة له في الإسلام .
فما هي ؟ الحق أن أحمد أمين غمس يده في أكثر من قضية من القضايا العقدية في الإسلام وليست هذه القضايا من قضايا الشيعة الإمامية وحدهم ، بل بعضها يشترك فيه الشيعة ، وأهل السنة كالقضايا المتعلقة بمنزلة الإمام علي ومكانته في الثقافة الإسلامية والأخرى المتعلقة ببعض أصحاب الرسول عليه السلام غمس أحمد أمين يده في قضية الشك في أصل الشيعة وما يزعمه - باطلا - من تأثر الشيعة بالنظم الساسانية ، والنحل الفارسية : كالديصانية والمزدكية والمانوية ، والأديان السماوية كاليهودية وهي أقول هشة لا تعتمد على دليل ، مادي أو بمعنى أصح لا تعتمد على حجج يقينية ، ومن ثم فأحكامه شديدة البطلان لأنها تعتمد على سفاهات بعض المستشرقين أمثال : ( دوزى ) ، ( وجولد زيهر ) ممن يكيدون للإسلام ويعملون على إحداث الفرقة بين صفوف المسلمين . وكيف لا يكون ما نقوله هو الحق .
والإمامية وغيرهم من الشيعة المعتدلين ينفقون مع المذاهب الفقهية عند
أهل السنة في كونهم يشهدون لله ، بالوحدانية ولمحمد بالرسالة ولا يخطئون جبريل فيما جاء به من وحي كما يزعم المبطلون من المتطرفين والمؤلهين . وهم ، وأهل السنة يتجهون إلى قبلة واحدة في الصلاة ، ويؤتون الزكاة ، ويصومون رمضان ، ويوجبون الجهاد في سبيل الله وما عيب الإمامية وغيرهم من معتدلي الشيعة إذا وجدت طوائف متطرفة آمنت بالتناسخ أو بحلول الجزء الإلهي مما لا يقول به أحد من المعتدلين إن أمثال هذه المفتريات هي من باب إرسال الأحكام دون تدبر وإنصاف ، وهي أكثر من ذلك تعتبر لونا من ألوان بذر الشقاق والفرقة وإحداث الصدع المدمر في صفوف المسلمين ! ! وما أقبحه عند الله من منكر ونهى عنه في محكم كتابه ونهى عنه نبي الإسلام وأسماه : ذات البين كذلك غمس أحمد أمين يده في شخصية الإمام علي . فمرة يعتبرها شخصية يصعب تصويرها . وأخرى يدين بدين المتطرفين من المستشرقين في تحليل هذه الشخصية . وثالثة ينكر كتاب : ( سر العالمين ) لحجة الإسلام الغزالي . ورابعة ينكر بطولاته الخارقة في قتل عمرو بن عبد ود . وخامسة في قتل مرحب بطل اليهود . وسادسة يستعظم هو وأمثاله خلع على للباب الخيبري . وسابعة يستعظم نسبة العلوم إليه . ولو كان أحمد أمين من هؤلاء الذين لم يدرسوا علوم الدين في مدرسة القضاء الشرعي لأخذنا له بعض العذر في منهج الشك الذي حاول تطبيقه . أما وإنه تخرج في مدرسة القضاء الشرعي فلا عذر له في هذا التطبيق
الأعمى ، حين نسي أو تناسى أن منهج ديكارت إنما يطبق في التجارب المادية في معمل الطبيعة ومعمل الكيمياء وحين تكون التجربة المادية هي الفيصل أما قضايا الدين المتعلقة بالوحي فلما منهج آخر يعتمد على التجربة الروحية التي تنفق مع طبيعتها ومن ثم أصبح شكه حجة عليه لا له وخطأ آخر أشنع من الأول حين زعم أن كثرة المروى في مناقب الإمام علي دليل الوضع .
وقد جهل أن الحكام بعد عصر الراشدين وفي عصر الأمويين والعباسيين كانوا حربا على علي ( رضي الله عنه ) والبيت النبوي الأعلى فمن أين يكون الوضع وعيون الحكام مسلطة على شيعة هذا البيت الكريم ؟ ! فإن وجدت أحاديث المناقب بهذه الكثيرة الكاثرة وفي مثل هذه الظروف العصيبة كانت دليلا على صدق مناقبه يضاف إلى ذلك أن تواتر هذه الأحاديث في أسانيد مختلفة لا فرق بين كتب أهل السنة وكتب الشيعة دليل آخر على صدقها .
وأذكر أني أحصيت في مناقب هذا الإمام ما يزيد على مائة وعشرين حديثا على الرغم من أن اطلاعي لا يتجاوز عشر ما هو مطبوع من كتب الأحاديث والمناقب فكيف بي إذا تتبعت مناقبه في كل ما هو مطبوع من كتب الحديث والمناقب عند الطائفتين .
وكأني بأحمد أمين نسي أو تناسى هذا الحديث المشهور : ( أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأت الباب ) الذي ألف فيه المحدث المشهور ( أحمد الصديقي الغماري المغربي ) كتابا مفردا . فأين علم أحمد أمين الذي تلقفه في مدرسة القضاء ؟ . ومن الذي شككه في هذا التراث ؟ .
لا شئ سوى عقدة الشعور بعدم المعاصرة ، وتطبيق المنهج الديكارتي في غير موضعه الذي وضع له تقليدا لصديقه طه حسين ، حين ذابت شخصية المحب في المحبوب ولو كان ذلك على حساب العلم والموضوعية في النقد ! ولم يسلم الكثيرون من أصحاب رسول الله من غمزات أحمد أمين حين غمس يده في شخصية أبي ذر الغفاري ، وسلمان الفارسي رضي الله عنهما وزعم لهما ما لم يزعماه وادعى عليهما ما هم براء منه .
فأما أبو ذر الغفاري فزعم له أنه تأثر بمزدك في الاتجاه الاشتراكي مع أن المزدكية مذهب أباحي اشتراكي على النمط الفارسي واشتراكية مزدك لا تقصر على المال بل تشمل المال والفروج وهو فهم شنيع الخطأ في هذه الموازنة المفتعلة .
ومعاذ الله أن يكون قصد أبي ذر نابعا من مفاهيم مزدك الفارسي الذي ظهر في عهد قباز ملك الفرس وأصحاب رسول الله إلا من استثناهم الرسول صل الله عليه وآله هم من أهل اليقين الذي فيهم وفي أمثالهم يقول الرسول الأعظم : ( لم تعط أمة من اليقين ما أعطيت أمتي ) . وأهل اليقين لا يتأثرون إلا بما جاء عن طريق الحق سبحانه وإنه لافتراء شنيع أن يدعى على أبي ذر مثل هذه المقالة . وقد كان من المقربين إلى قلب الرسول عليه السلام وفيه يقول : ( ويح أبي ذر يعيش وحيدا ، ويموت وحيدا ، ويبعث وحيدا ) .
وفي هذا إشارة إلى معاناة أبي ذر دعوة أهل الشام ، وبني أمية ، ومعاوية إلى أدراء الزكاة وإعطاء الفقراء فضل أموالهم وفيه وفي أبي الدرداء يقول أيضا :
( أبو الدرداء حكيم أمتي ، وأبو ذر طريدها ) وهذا الحديث وهو من أحاديث المغيبات يصور ما جرى لأبي ذر من جهاد في سبيل الحق فما أعظم الفرية على خواص أصحاب رسول الله ولكن عقدة الاستشراق وعقدة الشعور بعدم المعاصرة ، وعقدة التطلع إلى كل جديد ولو كان كفرا هي رأس كل مصيبة مني بها بعض الباحثين في أبحاثهم ! ! .
ولو كان ذلك على حساب الدين والافتراء على أصحاب رسول الله ! إن أبا ذر الغفاري وأمثاله كسلمان وصهيب وعمار بن ياسر يمثلون الطبقة الثانية من أصحاب الرسول الأعظم ولا يكاد يتقدم عليهم من قلب رسول الله إلا أعضاء البيت النبوي ( أهل الكساء ) وهم من فقراء الصحابة الذين عاتب فيهم رسول الله أبا بكر وجاء في قوله : ( إن كنت أغضبتهم يا أبا بكر فقد أغضبت ربك ( 1 ) . فما أسرع ما ذهب أبو بكر معتذرا لعمار وصحبه . ولكن أحمد أمين وأمثاله من أدعياء علم الجرح والتعديل لا يكادون يوازنون بين الأحاديث ولا يكادون يستسيغون فن المتابعة الحديثية ليصلوا إلى بر السلام في البحث العلمي ويأمنوا فلتات اللسان ، وعطب الأقلام ، فمثلهم وبريق كل جديد من المفتريات والتخرصات مثل الفراش الذي يجذبه بريق النار فيهوى فيه لحتفه . ونعوذ بالله من كل عجلة يعقبها ندم ، ولا سيما نقد الرجال المتفق على صلاحهم وورعهم .
فماذا كان موقف أحمد أمين من سلمان الفارسي ؟
|
1 - أنظر صحيح مسلم : 7 / 173 طبعة صبيح بمصر . |
| |
لم يأبه أحمد أمين بسلمان ( رضي الله عنه ) مع أنه أورد له النصوص المروية من كبار الصاحبة في تفصيل علمه وورعه فقد أورد فيه نص ( الإمام علي ) الدال على تضلعه في علوم الدين كما أورد فيه نص معاذ بن جبل الأنصاري الذي اعتبر فيه سلمان أحد الأربعة الذين يؤخذ عنهم العلم ، وهم : ابن مسعود ، وابن سلام ، وسلمان الفارسي ، وأبو الدرداء ( 1 ) .
وقول ( على ) حين سئل عنه : أدرك العلم الأول والعلم الآخر ، بحر لا ينزح قعره وقد تواترت هذه النصوص في التاريخ كما اشتهر في شأنه حديث صحيح : ( سلمان منا آل البيت ) وحديث حسن ( سلمان سابق فارس ) .
وإذا اختلفت أسانيد المناقب واتحد معناها دل ذلك على صحتها وبعدها عن الوضع ولكن أحمد أمين يشك ليشك لا ليجعل من الشك وسيلة للوصول إلى اليقين وأخيرا يشك في نسبه ( نهج البلاغة ) إلى الإمام علي وهو زعم خطأ ومهيع باطل بالدليل العقلي والدليل النقلي أما الدليل العقلي الدال على ثبوت هذه النسبة أننا لا نشك في أن ( نهج البلاغة ) من الكلام الذي يمثل قمة في البلاغة والحكمة والجمع بين الرواية والدراية وأنه لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون كلاما قالته الجن ولا بد أن يكون قائله من عالم الإنس .
|
1 - فجر الإسلام ص 179 الطبعة الأولى . |
| |
وأن هذا الكلام لم يعرف قبل الإسلام فإذا هو من الأساليب النثرية البليغة في الإسلام وأنه من المقطوع به أنه ليس قرآنا وليس حديثا نبويا فإذا هو كلام السابقين من الأمة وأنه من المقطوع به أن الشريف الرضي لم يكن أبلغ من على ، ولا يستطيع هو وأمثاله مهما بلغوا من البلاغة واللسن أن يصلوا إلى مستوى الإمام علي ، كما أنه يدعيه الشريف الرضي لنفسه ، فقد ثبت بداهة أنه كلام الإمام علي سلام الله عليه هذا إذا أضفنا ما لعلي من حكم ، وأمثال تسامق هذه الأسلوب وتوافق هذا النظم البليغ .
أما الدليل النقلي فقد أشار إليه مؤرخو الفكر الإسلامي ، ومؤرخو الأدب العربي وأعلام الكتاب منهم : عبد الحميد الكاتب الذي يقول فيه : ما عرفت البلاغة إلا بحفظ كلام الأصلع ومن المؤرخين ابن الأثير وسبط ابن الجوزي وقبلهما : أبو القاسم البلخي في عصر المقتدر بالله العباسي وإذا كان ابن أبي الحديد يؤيد ذلك فإن تأييده مستند إلى الحكم الموضوعي البعيد عن التحيز ، والكذب لأنه لم يكن شيعيا كما وهم أحمد أمين وإنما هو عالم معتزلي فكرا وحنفي فقها ولا يربطه بالتشيع إلا خيط ضعيف وهو كونه معتزليا فقد كان أكثر المعتزلة من تلاميذ السعادة الإمامية
الأمر الذي أوضحناه في مقدمتنا لكتاب : ( عقائد الإمامية ) للعلامة محمد رضا المظفر ، وفيه أشرنا إلى أن المعتزلة هم تلاميذ الشيعة بخلاف ما وهم فيه دارسو الفلسفة في الجامعات ، ذلك لأن واصل بن عطاء رأس المعتزلة كان تلميذا لا بي هاشم ، وأبو هاشم كان تلميذا لوالده محمد بن الحنيفة وابن الحنيفة كان تلميذا لوالده الإمام علي ( رضي الله عنه ) وبعد هذا الدليل القاطع يشك أحمد أمين ويتبع ( هوى هوار ) وصلاح الصفدي دون تمحيص ومتابعة ودراسة للقرائن التاريخية .
أما قول أحمد أمين بأن السجع في ( نهج البلاغة ) ينفي النسبة إلى الإمام على لأن السجع لم يكن موجودا في عصره ، فهو قول يملأ النفس شعورا بالخجل حينما يصدر من أستاذ جامعي .
وكأن أحمد أمين لا يفرق بين السجع المطبوع الذي عرف منذ العصر الجاهلي في أساليب العربية وجاء في القرآن وبعض الأحاديث ، والسجع المصنوع الذي ظهر في أساليب كتاب ديوان ( المقتدر ) ثم صار صناعة لها قدها في القرن الرابع على يد أبي الفضل بن العميد .
فسجع الإمام علي في ( نهج البلاغة ) إنما هو من النوع المطبوع ولو لم يكن السجع المطبوع موجودا في الجاهلية وصدر الإسلام لما قال جدنا صلوات الله عليه للصحابي الشاعر عبد الله بن رواحه ( إياك والسجع يا ابن رواحه ) والنهي عن الشئ دليل على وجوده وكم لأحمد أمين من أخطاء أخجلتنا أمام رجال المذاهب الإسلامية باعتبارنا من تلاميذه ( 1 ) .
|
1 - ومن طلب المزيد من الشرح والبسط فعليه بقراءة كتابنا : ( مع طه حسين ) |
| |
ولعله أخجلنا كثيرا - باعتباره أستاذا من بين أساتذتنا الأوائل في جامعة القاهرة : حين زعم أن الأساليب المنطقية المبثوثة في تراكيبه ليست من جنس أسلوب الإمام علي . وكأن المنطق الإنساني من صنع أرستطاليس . لقد ظلم الإمام بل وظلم أرسطو وظلم الفلسفة اليونانية بهذا الزعم . إن أرستطاليس لم يصنع للمنطق إلا مصطلحانه ! .
والمنطق وحسن التقسيم ، والمقدمات ، والنتائج كل ذلك موجود في سائر الأساليب العربية ، موجود في القرآن ، وموجود في أحاديث النبي عليه السلام ولو حاولت أن أشير إلى شواهد ذلك من أحاديث النبي لبلغ ذلك قدرا يربو على ألفي حديث للنبي عليه السلام وخذ لذلك مثلا موجزا من أوائل الأحاديث لتستدل على سوء فهم أحمد أمين للأساليب البليغة ، كقوله عليه السلام : ثلاثة لا يرد الله دعاءهم . . . ثلاثة لا يريحون رائحة الجنة . . . ثلاثة لا يقبل الله منهم يوم القيامة صرفا ولا عدلا . . . ست خصال من الخير ست خصال من السحت . . . ستة من كن فيه كان مؤمنا حقا . . . سبعة يظلمهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله . . . سبعة لعنتهم وكل نبي مجاب . . . ثمانية أبغض خليقة الله يوم القيامة . . .
إلى مئات الأحاديث من هذا الأسلوب المنطقي التقريري ، الذي قدير بو على الألفين من تراث النبي الأعظم الذي أزعم لك أنه يبلغ الألف ألف حديث من أقواله عدا : الأفعال والتقريرات وهو ما ستتابع بعون الله نشره من تراث النبي الأعظم صل الله عليه وآله .
فإذا جاء في ( نهج البلاغة ) شئ من ذلك فإنما هو من قبيل نهج التلميذ ( علي ) لأستاذه ( محمد ) سيد الأنبياء صل الله عليه وآله أما استهجانه للشيعة في قولهم : بالتقية فإنه مردود عقلا وشرعا فأما عقلا : فإنه مقطوع به عند الناس وهو جزء من سلوك الإنسان حين يباغته أعداؤه وهو من سياسة الإنسان ومداراته ليتقي شر العدو فيقول مضطرا بغير ما يعتقد ليتخلص من ورطة الشدائد وشباك الغدر وحين ينجو وجب عليه العودة إلى معتقده ، وإلا كان منافقا وقد فعل ذلك في عصر النبوة عمار ابن ياسر وأقره النبي على ذلك .
وأما شرعا فذلك ما يؤخذ من قول الله تعالى : إلا أن تتقوا منهم تقاة وقول النبي عليه السلام : ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) والتقية إنما تكون حين يستكره المسلم ليخلص من عدوه ومن هنا كانت التقية جزءا متفقا عليه في السلوك الإسلامي لا فرق بين شيعي وسني وأما تهكمه من قول الشيعة بالرجعة فهو قول من لا يتدبر القرآن الكريم ويعرف معجزات السابقين من أتباع الأديان السماوية
وأين أحمد أمين من قصة العزيز ، وأين هو من قصة أهل الكهف وهناك الآيات القواطع ويكفي قول الله تعالى : ( أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال : كم لبثت قال : لبثت يوما أو بعض يوم قال : بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية الناس وانظر إلى العظام كيف نشرها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال : أعلم أن الله على كل شئ قدير ) فأحمد أمين حينما يقول : إن الرجعة جاءت من تأثر الشيعة باليهودية فإنما يقول ذلك عن دخل في عقيدته فإن قال بتأثر القرآن باليهودية فذلك هو الكفر الصريح ونعوذ بالله من قضية الجهل بأحكام الإسلام وقيمه ومبادئه .
فإن قلت : إيها القارئ الكريم نحن نسلم معك في أن الرجعة كانت في الأمم القديمة بدليل الآية التي أوردتها فما دليلك على كونها ستكون في الإسلام ؟ .
قلنا : إن الدليل على ذلك يستقى من قول النبي عليه السلام : ( لتركبن سنن من قلبكم شبرا وذراعا بذراع حتى أو أن أحدهم دخل حجر ضب لدخلتم ، ) إلى آخر الحديث فكل ما مرت به الأمم السابقة تمر به أمة سيد الأنبياء ولكأنها - على حد تعبير إخواننا علماء النفس - تلخيص للأطوار السابقة التي مرت بها الأمم ونحن لا نعجب من خطأ حدث من عالم يدعي العلم كعجبي من هذه الأخطاء
الساذجة التي وقع فيها أحمد أمين فأساء فيها إلى العلم وإلى تلاميذه ، وكان سببا مباشرا في الدعوة إلى الفرقة والتحاسد ، والتباغض ، والكيد لوحدة الأمة في وقت نحن فيه في أشد الحاجة إلى توحيد الصف وبذل الجهود للاعتصام بهذا الدين القيم الذي لم يأته الباطل من بين يديه ولا من خلفة .
إن الإمامية مذهب من المذاهب الفقهية وهو أحد المذاهب الثمانية التي يعتبرها المنهج العلمي الحديث من المذاهب المعتدلة وهي : الخليفة ، والمالكية ، والشافعية ، والحنبلية ، والجعفرية ( الإمامية ) والظاهرية والأباضية والزيدية وهي في نفس الوقت باعتبار انتسابها إلى الإمام جعفر الصادق - تعتبر أولى المذاهب الفقهية لأن أبا حنيفة ومالك كانا تلميذين للإمام الصادق وكان أبو حنيفة كثيرا ما يقول : لولا السنتان لهلك النعمان هذا الخط الذي وقع فيه أحمد أمين يذكرني وأنا أكتب هذا التصدير بلقاء جمع بيني وبين العالم المجتهد أحمد شاكر في بيته - وقد كان بشارع المقريزي بمنشية البكري .
وكنت أهديت إليه كتابي : ( مع أحمد أمين ) . ثم دار حوار بيني وبينه حول كتابات : أحمد أمين في ( فجر الإسلام ) فما كان من جواب العلامة أحمد شاكر إلا أن نطق بكلمة : أمي : كلمة واحدة رمز بها الشيخ الجليل إلى كل شئ ونوه بها عن كل شئ يتصل بقلم : أحمد أمين ويصور في نفس الوقت ضئالة شخصية العلمية في نفوس مجتهدي المذاهب الفقهية .
وأحمد شاكر وما أحمد شاكر وهو على مستوى من المسؤولية العلمية
بمكان عظيم سمعته أكثر من مرة وأنا أحاوره في مذهبه الفقهي الذي يقلده أو يراه موضعا للتقليد ، فكان - رحمه الله - يأبى إلا أن يصور نفسه في درجة من الاجتهاد ، وهي أقرب إلى درجة : ( المجتهد المطلق ) منه إلى درجة ( مجتهد المذهب ) التي عرف بها رجال الطبقة الثانية من الفقهاء ومهما يكن من أمر .
فإن حكم الشيخ أحمد شاكر على ( أحمد أمين ) حكم له خطره في نظر - المنهج العلمي الحديث - وهو في نظرنا ثاني اثنين ختم بهما علم الجرح والتعديل أولهما : أستاذنا الشيخ محمد زاهد الكوثري وكيل مشيخة الإسلام في تركيا ونزيل القاهرة وقد كانت له مع أحمد أمين مواقف يذكرها له التشريع الإسلامي بالإجلال والإكبار حين كان يرصد قلمه للذب عن الشريعة وكان - رحمة الله - من الغيرة على الفقه الإسلامي والمعرفة بمواضع الخلاف بين الفقهاء في الوضع الذي يحله مكان المجتهدين في فقه أبي حنيفة .
وقد كان هذان العالمان ( 1 ) من النفر القليل العارفين برجال المذاهب الفقهية المعدلين من هو أهل التعديل ، في الوقت الذي فيه يعملان جاهدين على إحقاق الحق ، وإبطال الباطل وليس أدل على رسوخهما في الاجتهاد من قراءتهما الواسعة فيما جاء في المذهب الجعفري من أحكام . ولعلنا نلحظ هذا الأثر واضحا ولا سيما كتابات : أحمد شاكر
|
1 - توفي الشيخ محمد زاهد الكوثري عام 1371 ه وتوفي الشيخ أحمد محمد شاكر عام 1377 ه |
| |
واطلاعه على أقوال فقهاء الإمامية وكتابه ( نظام الطلاق في الإسلام ) أكبر شاهد عما نقول ( 1 ) .
وآخر القضايا المهمة غمس فيها أحمد أمين يده هي قضية الإمامة وهي من أكبر القضايا التي المذهب الإمامي الجعفري عن المذاهب الأخرى .
فإذا قال الإمامية بأفضلية علي على أبي بكر وعمر فإن هذا القول لا يعد - كما يعتقد جهلاء الأمة - فسقا أو ضلالا أو خروجا على الشريعة وإنما هي مسألة اجتهادية لم يفطن لها أحمد أمين صورتها العلمية الدقيقة والإمامية في هذا القول مجتهدون لهم رأيهم ولهم نصوصهم من القرآن والسنة وفي مقدمة هذه الحجج التي يرونها موضع التفضيل وسبا مشروعا في أحقيقة التقديم في الخلافة آية التطهير : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) وآية المباهلة : ( قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ) إلى عشرات الآيات التي لا داعي للاسترسال فيها إيثارا للإيجاز في هذا التصدير أما الأحاديث الدالة على أفضلية ( على ) و تقديمه على الشيخين في العلم والجهاد والمقاضاة بين الأمة ، والزهد في الدنيا فهناك يتجاوز المائة حديث وأشهرها حديث المؤاخاة وحديث المنزلة وحديث الكساء وحديث غدير خم وهو نص جلي في إمامته بعد النبي عليه السلام .
|
1 - وكان للشيخ أحمد شاكر اتصال ومراسلة مع الإمام كاشف الغطاء أنظر أصل الشيعة وأصولها الطبعة العاشرة طبعة القاهرة عام 1977 ه - الناشر - |
| |
فهذه المسألة هي موضع الخلاف الوحيد بين الإمامية وغيرهم من المذاهب الفقهية وقد كانت نظرة أحمد أمين فيها نظرة سطحية لم يشبع فيها بحثه في ( فجر الإسلام ) وظن أنها من شواذ قضاياهم ، مع أنها محل نظر عند الراسخين في العلم من السنة والشيعة فالسنة رأوا لا بأس من الاجتهاد مع وجود النص المسائل المتعلقة بالسياسة والحكم بخلاف العبادات ، حين تدعو الظروف الواقعية المجبرة لذلك لعلل لا محل لسردها في هذه العجالة .
والشيعة يرون أنه لا اجتهاد مع النص وأن الإمامة ليست من الشورى بل هي بنص صريح من النبي عليه السلام ، والنبي أمر بتبليغها من قبل الحق سبحانه في قوله : ( يا أيها النبي بلغ ما أنزل إليك من ربك ) والحق أننا لا نستطيع أن نسفه أحلام هؤلاء ولا هؤلاء لسببين جوهريين :
الأول : أن صاحب الحق وهو علي رضي الله عنه وأرضاه آثر الابقاء على وحدة الأمة على حقه المشروع في الخلافة حتى لا يتزعزع ركن الإسلام وتطل الفتنة من بين الصفوف فتقطع الحرث والنسل .
الثاني : أن مخالفة النص نظر الشيعة على الرغم مما في ظاهره من هضم لحق ( علي ) فإنه لم يحدث صدعا في وحدة الأمة للسبب الأول الذي أشرنا إليه والدليل القطعي على ذلك أن الله أثنى على أمة نبيه وهو يعلم ما سيحدث من اختلاف وفتن فيها بقوله : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ) وقول النبي عليه السلام :
لا تجتمع أمتي على ضلالة وإذعان ( على ) والصفوة المخلصون من شيعته وفيهم العباس وسلمان الفارسي والزبير للواقع الذي حدث بعد السقيفة كان إجهازا على القطيعة وبترا للخلاف في الدنيا وإن كان ذلك في نظر - المنهج العلمي الحديث - لا يمنع من الحساب والسؤال عن جزئيات هذه الأحداث وكلياتها في الآخرة بين يدي الله تعالى .
ولكن أكثر الباحثين يعجزون عن تدبر أعماق هذه القضية الكبرى وثبر فلسفتها بين الشريعة والحقيقة فكان منهم : من قصر نظرته على الجانب الواقعي فيها وهم : أهل السنة ومنهم : من استولت على تفكيره النظرة المثالية في فهمها وهو : الشيعة وقد حاول الإمامان الجليلان عبد الحسين شرف الدين والشيخ محمد سليم البشري في كتاب ( المراجعات ( 1 ) توضيح نقطة الخلاف ولكن ( أحمد أمين ) لم يطلع على شئ من هذه التفاصيل العلمية ، وأحدث بسبب ما أورده في ( فجر الإسلام ) صدعا بين شقي هذه الأمة وما كان أغناه عن غمس يده في هذه القضايا فأساء إلى نفسه كأستاذ باحث وأساء إلى وحدة المسلمين بعد أن غم عليه الأمر حين أساء تطبيق المناهج العلمية وسخر بفكره المستشرقون الذين لا يعنيهم إلا الدس للإسلام وصاحب الرسالة
|
1 - طبع هذا الكتاب الطعة السابقة عشرة منه في مطبعة دار المعلم بالسيدة زينب بمصر عام 1977 م والطبعة التاسعة عشرة في مطبعة الحاج رشاد الكيلاني قرب باب الخلق بالقاهرة عام 1978 م |
| |
وقبل أن أختم كلمتي أعتر ف بلسان المنهج العلمي الحديث - الذي لا يعنيه إلا النظرة الموضوعية في الأحكام أن العلامة عبد الله السبيتي قد أدى رسالة نحو إحقاق الحق وبذل الجهد وما في الوسع ليذب عن طائفة من الأمة - هو ينتمي إليها - طالما اقترف المفترقون في حقها ونسبوا إليها كل ما يسئ إلى الإنسان المسلم وادعوا عليها أقوالا مكفرة معاذ الله أن تكون من أخلاق الإمامية ومعتقداتهم ، أو أخلاق إخوانهم أهل السنة ومعتقداتهم .
ويكفي أن يكون الإمامية من معتنقي المذهب الجعفري ( والمنسوب إلى جدنا الإمام جعفر بن محمد الصادق ( رضي الله عنه ) أحد المذاهب الفقهية الثمانية التي أشرنا إليها في هذا التصدير كما لا أنسى في ذيل هذه الكلمة أن أحمد للأخ الفاضل السيد مرتضى الرضوي عنايته بنشر ما للإمامية من كتب قيمة سيكون لها الأثر الطيب في لم الشعث وتوطيد أواصر المحبة والإجهاز على الخلافات بين شقي أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم : وهو الأمر الذي ندعو إليه في كتاباتنا عن التقريب بين المذاهب الإسلامية منذ عام 1955 م
والله ولي التوفيق وهو حسينا ونعم الوكيل
|