متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
2 - عقائد الإمامية
الكتاب : نظرات في الكتب الخالدة    |    القسم : مكتبة المُستبصرين

2 - عقائد الإمامية
----------------------------- ص 26 -----------------------------

بسم الله الرحمن الرحيم
----------------------------- ص 27 -----------------------------

يخطئ كثيرا من يدعي أنه يستطيع أن يقف على عقائد الشيعة الإمامية وعلومهم وآدابهم مما كتبه عنهم الخصوم ، مهما بلغ هؤلاء الخصوم من العلم والإحاطة ، ومهما أحرزوا من الأمانة العلمية في نقل النصوص والتعليق عليها بأسلوب نزيه بعيد عن التعصب الأعمى .

أقول ذلك جازما بصحة ما أدعى بعد أن قضيت ردحا طويلا من الزمن أدرس فيه عقائد الأئمة الاثني عشر بخاصة ، وعقائد الشيعة بعامة ، فما خرجت من هذه الدراسة الطويلة التي قضيتها متصفحا في كتب المؤرخين والنقاد من علماء أهل السنة بشئ ذي بال وما زادني اشتياق إلى هذه الدراسة وميلي الشديد في الوقوف على دقائقها إلا بعدا عنها وخروجا عما أردت من

 

( 1 ) الشيخ المظفر علم من أعلام الشيعة الإمامية ومؤسس كلية الفقه في النجف الأشرف بالعراق وله عدة مؤلفات مطبوعة منها : ( المنطق ) في ثلاثة أجزاء و ( أصول الفقه ) في مجلدين و ( السقيفة ) و ( على هامش السقيفة ) ودراسة مستفيضة عن الفيلسوف الكبير ( صدر الدين شيرازي ) و ( عقائد الإمامية ) نشرته مطبوعات النجاح بالقاهرة عام 1381 هـ 1961م وقد تكرر طبع مؤلفاته مرارا عديدة في العراق ولبنان والقاهرة وإيران وتعتبر مؤلفاته ودراساته مراجع للدارسين في حقل الثقافة الإسلامية ، وله بالإضافة إلى ذلك مبحوث ودراسات في مواضيع فلسفية وتاريخية وغيرها

 
 

- ص 28 -

الوصول إلى حقائقها . . . ذلك لأنها كانت دراسة بتراء أحلت نفسي فيها على كتب الخصوم لهذا المذهب ، وهو المذهب الذي يمثل شطر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ومن ثم اضطررت بحكم ميلي الشديد إلى طلب الحقيقة حيث كانت ، والحكمة حيث وجدت ، والحكمة ضالة المؤمن ، أن أدير دفة دراستي العلمية لمذهب الأئمة الإثنى عشر إلى الناحية الأخرى .

تلك هي دراسة هذا المذهب في كتب أربابه وأن أتعرف عقائد القوم مما كتبه شيوخهم والباحثون المحققون من علمائهم وجهابذتهم ومن البديهي أن رجال المذهب أشد معرفة لمذهبهم من معرفة الخصوم به ، مهما بلغ أولئك الخصوم من الفصاحة والبلاغة أو أوتوا حظا من السن والإبانة عما في النفس وفضلا عن ذلك فإن ( الأمانة العلمية ) التي هي من أوائل أسس ( المنهج العلمي الحديث ) وهو المنهج الذي اخترته وجعلته دستوري في أبحاثي ، ومؤلفاتي حين أحاول الكشف عن الحقائق المادية والروحية هذه الأمانة المذكورة تقتضي التثبت التام في نقل النصوص ، والدراسة الفاحصة لها فكيف لباحث بالغا ما بلغ من المهارة العلمية والفراسة التامة في غير مصادرهم !

إذن لا ارتاب في بحثه العلمي ، وكان بحثه على غير أساس متين ذلك ما دعاني أن أتوسع في دراسة الشيعة والتشيع في كتب الشيعة أنفسهم وأن أتعرف عقائد القوم نقلا عما كتبوه بأيديهم وانطلقت به ألسنتهم لا زيادة ولا نقص ، حتى لا أقع في الالتباس الذي وقع فيه غيري من المؤرخين والنقاد

- ص 29 -

حين تصدروا للحكم على الشيعة والتشيع وأن الباحث الذي يريد مجموعة ما من الحقائق في غير مصادرها الأولى ، ومظانها الأصلية إنما يسلك شططا ، ويفعل عبثا ، ليس هو من العلم ولا من العلم في شئ ومثل هذا ما وقع فيه العلامة ( الدكتور أحمد أمين ) حين تعرض لمذهب الشيعة في كتبه فقد حاول هذا العالم أن يجلى المثقفين بعضا من جوانب ذلك المذهب فورط نفسه في كثير من المباحث الشيعية ، كقوله : إن اليهودية ظهرت في التشيع ، وقوله إن النار محرمة الشيعي إلا قليلا ، وقوله بتبعيتهم لعبد الله بن سبأ . . .

وغير هذا من المباحث التي ثبت بطلانها ، وبراءة الشيعة منها وتصدى لها علماؤهم بالنقد ، والتجريح ، وفصل الحديث فيها العلامة محمد الحسين آل كاشف الغطاء في كتابه ( أصل الشيعة وأصولها ) وقد سرني وأنا أتعقب مصادر الشيعة الإمامية وأصولها ومظانها الأولى أن ألتقي بصديق قديم ، وناشر عراقي كريم هو : السيد مرتضى الرضوي وبيده بعضا من عيون كتب الشيعة قام بطبعها في دور الطباعة بالقاهرة وكان مما أهداه إلى هذا الناشر الفاضل كتاب ( أصل الشيعة وأصولها ) الآنف الذكر ، وكتاب ( عبد الله بن سبأ ) و ( أجزاء من كتاب ) وسائل الشيعة ، وغير هذا وذلك من عيون كتبهم في العقائد الشيعية والفقه الشيعي واليوم قدم إلى السيد مرتضى الرضوي كتابا جديدا للأستاذ محمد رضا المظفر عميد كلية الفقه في النجف الأشرف ، ألفه في عقائد الإمامة وطلب مني أن أكتب مقدمة لهذا السفر الجليل وأن أبدي رأيي الصريح

- ص 30 -

حوله بعد أن أكد العزم على طبعه ونشره وما كدت أتصفح هذا السفر حتى ملك على إعجابي للذي جمعه فيه مؤلفه بين الغرض الدقيق لعقائد الإمامية ، والأداء الواضح المفصح عما يعنيه الكاتب فلا يكاد الكتاب يمتعك بما حواه من عقائد الشيعة وتتبعها في صورة رتيبة منظمة ، وأداء مبوب حتى يبهرك بجمال عبارته وإشراق ديباجته وهو فوق هذا وذلك يجمع بوجه عام بين الإفادة التامة التي يبغيها الباحثون في كتب الشيعة ، والإيجاز والتركيز فيها يريد الكاتب أن يعرض على قرائه .

فالكتاب على هذا النحو الذي يعنيه المؤلف حين يعرض بين يديك عقائد عقائد الإمامية يعتبر مصدرا جامعا مانعا ملما بأطراف الموضوع من جميع نواحيه وإن كان في غاية من التركيز والإيجاز ولست في هذا المقام أعني بما كتبت إطراء الكاتب أو تقريظه بالمدح ولا ثناء البالغ بقدر ما أنا أبغيه من إنصاف الحقيقة وتجليتها لقراء هذا السفر الصغير ، فإن شيئا من ذلك يعتبر في نظري من أوليات المبادئ العلمية التي يهدف إليها الباحثون حين يصورون الحقايق ويضعونها في موضعها اللائق بها .

لذلك فإني أعرض على القارئ الكريم صورا جميلة مما حواه هذا السفر الصغير في حجمه ومبناه ، الضخم في أفكاره ومعانيه ، هذا السفر الذي شحنه مؤلفه بالأدلة والبراهين وطرزه بالحجج والشواهد ، من القرآن تارة ومن الحديث أخرى ، ومن أقوال الأئمة الاثني عشر رضوان الله عليهم تارة أخرى هذه الصور الجميلة التي - سأعرضها عليك - لا أشك في أنها ستستوقف

- ص 31 -

القارئ المطلع كما استوقفتني ، وستستهويه كما استهوتني ، وإن لم يطالع هذا التقديم الذي كتبته ، فكثيرا ما ترتبط المشاعر بين الباحثين والقراء ، وتتوحد أهدافهم في الحكم على الأفكار والمعاني لأن الحق واحد لا يتعدد ما دام القائلون به والحاكمون عليه يرسلون أحكامهم من زاوية عقولهم قبل قلوبهم ، وأفئدتهم قبل هواهم ، وما داموا ينصفون ولا يتعصبون ومن هذه الصور التي تستوقف القارئ مسألة القول ب‍ ( الاجتهاد ) عند الإمامية فإن الصورة المتوارثة عن جهابذة أهل السنة أن الاجتهاد قفل بابه بأئمة الفقه الأربعة . أبي حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل هذا إذا عنينا الاجتهاد المطلق أما ما حاوله الفقهاء بعد هؤلاء من اجتهاد لا يعدو أن يكون اجتهادا جزئيا في الفروغ وأن هذا ونحوه لا يكاد يتجاوز عند أهل السنة القرن الرابع بحال من الأحوال أما ما جاء عن الغزالي في القرن الخامس ، وأبو طاهر السلفي في القرن السادس ، وعز الدين بن عبد السلام ، وابن دقيق العيد في القرن السابع ، وتقي الدين السبكي والمبتدع ( 1 ) ابن تيمية في القرن الثامن ، والعلامة جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي في القرن التاسع . . . . فإن هدا ونحوه لا يتجاوز في نظر المنهج العلمي الحديث - باب الفتوى ولا يدخل في شئ من الاجتهاد وهو القدر الذي أوضحناه في كتابنا . تاريخ التشريع الإسلامي في مصر

 

 1 - ذهب كثير من علماء السنة إلى القول بابتداعه . أما الصوفية فإنهم أجمعوا على ذلك . وقد كانت بين الإمام تقي الدين السبكي وابن تيمية مساجلات في نواح كثيرة من الفقه والعقيدة أنظر كتابنا : تاريخ التشريع الإسلامي في مصر .

 
 

- ص 32 -

في غفران الصغائر والكبائر محمد شفيع الحسيني الطالقاني أو زاذاني غفر الله له ولوالديه ورضي عنهما ، وأرضاهما ، والحمد لله أولا وآخرا ، وظاهرا وباطنا وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين وسلم تسليما كثيرا ويسرني أن أنوه في ختام هذا التعريف أن الناشر وقد عهد بتحقيق هذا التفسير إلى المتخصصين في خدمة التراث الإسلامي - قد أسدى إلى هذا التفسير الجليل خدمات علمية جليلة يسرت على قرائه سبيل الجمع بين التفسير والصحف العثماني وبعض ما يتصل بهما من علوم القرآن الكريم

- ص 33 -

قولهم بالرأي الأول في الحسن والقبح فهما في نظر الشيعة بعامة والإمامية بخاصة جوهريان ذاتيان في الأشياء وليسا آتيتين من قبل أمر الله ونهيه ، وذلك نهج يستوقف نظر الكثيرين من الباحثين ويدعوهم إلى الدهشة وإطالة الفكر والتأمل أما نحن فلا نجد في ذلك أدنى دهشة أو التباس في الأمر ذلك .

أن الشيعة الإمامية كانوا يأخذون في الكثير من مواطن الأحكام الدينية بمنهج العقل بقدر أخذهم بمنهج النقل وأن رأيهم في الحسن والقبح الذاتيين هو رأي جهابذة المعتزلة ويبقى هناك سؤال واحد يستلزم منا أن نجيبك عليه ، هو : هل تأثير الشيعة بالمعتزلة ؟ أم تأثير المعتزلة بالشيعة ؟ فأما جمهور الباحثين فيرون أن الشيعة تأثروا بالمعتزلة في الأخذ بالمنهج العقلي ولكني أزعم لك أن المعتزلة الذين تأثروا بالشيعة ، وأن التشيع كعقيدة سابق على الاعتزال كعقيدة ، وأن الاعتزال ولد ودرج في أحضان التشيع ، وأن رؤوس الشيعة كانوا أسبق في الوجود من جهابذة المعتزلة أزعم لك ذلك ما دمنا نسلم بالحقائق التاريخية .

وما دمنا لا نشك في أن الرعيل الأول من الشيعة أخذوا في الظهور منذ عصر الراشدين وتطوروا في خلافة الإمام علي كرم الله وجهه في صورة لا تقبل الجدل وما كاد الإمام يستشهد ظلما وعدوانا وينتقل إلى الدار الآخرة حتى أصبح للشيعة حزب يناهض جميع الأحزاب السياسية والدينية في الإسلام ومن هنا أستطيع أن أجلي للقارئ المتدبر أن التشيع ليس كما يزعمه المخرفون

- ص 34 -

والسفيانيون من الباحثين مذهبا نقليا محضا أو قائما على الآثار الدينية المشحونة بالخرافات والأوهام والإسرائيليات ، أو مستمدا في مبادئه من عبد الله بن سبأ وغيره من الشخصيات الخيالية في التاريخ ، بل التشيع في نظر - منهجنا العلمي الحديث - على عكس ما يزعمه الخصوم تماما ، فهو المذهب الإسلامي الأول الذي عنى كل العناية بالمنقول والمعقول جميعا واستطاع أن يسلك بين المذاهب الإسلامية طريقا شاملا واسع الآفاق ولولا ما امتاز به الشيعة من توفيق بين ( المعقول ) و ( المنقول ) لما لمسنا فيهم هذه الروح المتجددة في الاجتهاد وتطوير مسائلهم الفقهية مع الزمان والمكان بما لا يتنافى مع روح الشريعة الإسلامية الخالدة ودعني أعرض عليك ( صورة ثالثة ) .

قد يخيل إليك أنها تتنافى مع المنهج العقلي الذي حدثناك عنه في الصورة السالفة ألا وهي عناية الشيعة بزيارة القبور وزيارة أضرحة الأولياء والأئمة من آل البيت وتعبدهم بحوار مقاماتهم كإقامة الصلوات المفروضة ونشر مجالس العلم وإحياء ذكرى أئمتهم الاثني عشر فإن شيئا من ذلك في نظر المعاصرين من المسلمين والتجريبين الآخذين بالعقل والرأي يعتبر أباطيل وخرافات ، بل هناك من الفرق الإسلامية من يعتبر ذلك كفرا ومروقا من الدين ولا سيما أتباع أحمد بن عبد الحليم بن تيمية ، وأتباع تلميذه التاريخي محمد عبد الوهاب النجدي مؤسس المذهب الوهابي ، وغير هؤلاء جماعة من معاصرينا نترفع بالقلم عن ذكرهم .

أما سواد أهل السنة وجميع المعتدلين منهم فإنهم بالإجماع يوافقون إخوانهم الشيعة الإمامية في هذه العقيدة ، لأن كلا الفريقين يعتقد أن الأولياء والأئمة وجميع من في الأرض لا ينفعونك بشئ إلى بشئ أراده الله لك ،

- ص 35 -

ولا يضرونك بشئ إلا بشئ أراده الله لك فليس لهم تأثير ولا نفع ولا ضر إلا بإذن الله ، وعلى هذا الأساس فزيارة قبور هؤلاء الخواص إنما هو من قبيل التأسي بأخلاقهم والاقتداء بمآثرهم الطيبة والتماس العبر والعظات في إحياء ذكراهم وذلك مباح عند الفريقين .

وصورة رابعة أخذت بتلابيب تقديري إعجابي وأنا أطالع كتاب أخي المؤلف ، وأعنى بها قدرته في تجلية عقائد الإمامية في أسلوب رتيب يفصح عن تأثر الشيعة بالمنهج العقلي وسبق أني ذكرت أن سبب ذلك راجع إلى تعمق الشيعة في العلوم العقلية بقدر يماثل ما رووه عن أئمتهم من النقليات وهذا أيضا يدلنا دلالة قاطعة على الروابط المتينة التي كانت بين التشيع والاعتزال وبين أعيان الشيعة وأعيان المعتزلة .

وإن من يراجع كتابنا ( الصاحب بن عباد ) يرى إلى أي حد كان أعيان الشيعة هم أعيان المعتزلة ، وأعيان المعتزلة هم أعيان الشيعة إلا فيما شذ منهم ولقد بلغت هذه الروابط قمة التأثر المزدوج بين الطائفتين في أواسط القرن الرابع الهجري ، ووصلت إلى منتهاها في شخصية ( الصاحب بن عباد ) الذي تولى زعامتي الاعتزال والتشيع في النصف الثاني من ذلك القرن الذي تسنمت فيه الحضارة الإسلامية مكان الذروة فإذا ما تعرض المؤلف الكريم للحديث عن ( توحيد الصفات ) ( ص 14 ) في ذات الله تعالى فإنه يذكرنا بعقيدة المعتزلة في القول بتوحيد الصفات ، ومن أجل هذا أطلقوا على أنفسهم أهل التوحيد فالإمامية والمعتزلة يشتركان في القول بأن الصفات هي عين الذات أي أنه سبحانه بصير بذاته ، سميع بذاته ، قادر بذاته وهكذا لا يفرقان بين الذات والصفات وأصحاب هذين المذهبين لهم

- ص 36 -

عذرهم في ذلك عندي ، إذا التفرق بين الذات والصفات كثيرا ما يحمل العقول إلى الالتباس ويدفع الأذهان في معنى الإشراك وهذا - مما لا شك فيه - من روائع تأملاتهم في التوحيد وكذلك نلحظ مثل هذه الروابط المتينة بين الإمامية والمعتزلة فيها تعرض له المؤلف من عقائد تتعلق بمعنى ( العدل الإلهي ، من نحو ( وجوب فعل الجميل ) على الله تعالى ، ونحو ( وجوب ترك القبيح ) منه تعالى فإنهما ما قالا بهذه المقالة إلا تحرزا عن نسبة الظلم إليه سبحانه ومن ثم يتأول الإمامية استشهاد أهل السنة بقولة تعالى : ( لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ) ، وهم بحكم هذه العقيدة لا يرتضون قول الإمام أحمد الدردير - أحد أعلام السنة والتصوف في القرن الثاني عشر حين يقول في خريدته :

ومن يقل بفعل الجميل وجبا * على الإله فقد أساء الأدبا

ومع هذا فأنا - أيضا - آخذ لهم في ذلك العذر كل العذر للذي تنطوي عليه أفئدتهم من جميل القصد وهو التحرز من نسبة الظلم إليه سبحانه ولو كان ذلك من قبيل توهم الظلم والحق أن لكل من الطائفتين : المعتزلة والشيعة الإمامية في جانب وأهلي السنة والصوفية في جانب آخر - وجهته في الثناء على المكان الإلهي فالمعتزلة والإمامية يؤثرون الدفاع عن جانب ( العدل الإلهي ) .

أما أهل السنة والصوفية وجماعة من السلف الصالح فإنهم يؤثرون جانب الدفاع عن ( الحرية الإلهية ) أي الحرية المطلقة لله سبحانه ، وهي الحرية التي لا تقيدها قيود ولا تعلوها قوة أخرى والتي يستشهدون لها بقولة : ( لا يسأل

- ص 37 -

عما يفعل ) ولكل من الجانبين المتضادين - في نظر المنهج العلمي الحديث - وجهة هو موليها ويلحق بهذا القدر قول المؤلف في ( القضاء والقدر ) وهل الإنسان مسير أم مخير ؟ أو على حد تعبير الإمامية : هل الإنسان مجبر أو مفوض ؟ .

وهذا المبحث وإن كان شديد الارتباط بفلسفة العدل الإلهي التي شابهم فيها المعتزلة ، إلا أننا نلحظ على الإمامية في هذا المقام أنهم يسلكون مسلكا آخر ، مسلكا وسطا فلا يقولون بالجبر المطلق الذي قال به فريق الجبريين ، الملقبين بالجهنمية ، كما أنهم لا يقولون بالتفويض المطلق الذي قال به فريق ( المفوضين ) الملقبين بالقدرية من المعتزلة أما عن عدم قولهم بمقالة الجبريين فلأن القول بالجبر ينفي عن الإنسان الإرادة والاختيار أصالة ويجعله لعبة في يد الأقدار ، أو كالريشة في مهب الرياح وإذا كان كذلك صار حساب الله له - في عرضهم - عما يرتكبه من خطأ ظلما فاحشا لأنه لا سلطان له حينئذ في اختياره ، ولا إرادة له تمنعه من الوقوع في ذلك الخطأ ، فهم ينكرون هذا الجبر لأنه ينفي عن الله صفة العدل ، وفي هذا يقول الشاعر معبرا عن ذلك :

ألقاء في اليم مكتوفا وقال له * إياك إياك أن تبتل بالماء

- وأما عن تركهم رأي القائلين بالتفويض المطلق ، والاختيار المطلق فلأنه يجعل المرء في أفعاله وأقواله مستقلا عن إرادة الله وقدرته ، فهو - في نظرهم - رأي المفوضين والقدريين الذين يقولون إن الإنسان يخلق أفعال نفسه دون تدخل لقدرة الله في هذا الفعل

- ص 38 -

وفقد أورد بعض نقاد العقائد أحاديث في ذمهم ، منها قوله عليه السلام : ( القدرية مجوس هذه الأمة ) ومن هنا نعلم أن خطأ الجبريين ينصب في نفي صفة العدل عن الباري سبحانه لأنه يحاسب الإنسان على أفعال هو موجدها فيه دون تدخل للمخلوق في ذلك أما خطأ القدريين فينصب في نفي قدرة الله وسلطانه على مخلوقاته ، وكلاهما بعيد عن الحقيقة كل البعد فإذا كان الإمامية يقولون بمقالة الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه : ( لا جبر ولا تفويض ولكن أمرين ) فإنهم يتفقون مع إخوانهم أعلام السنة كل الاتفاق ، ذلك أن أهل السنة يقولون بمثل مقالتهم ، ويصرحون بأن للإنسان جزءا اختياريا ، فهو ليس بالجبر المحض ، ولا بالخالق لأفعال نفسه وأشهر القائلين بهذه المقالة الإمام أبو الحسن الأشعري .

وقد حاول الإمام فخر الدين الرازي أن يفلسف التوفيق بين مذهب الجبر ومذهب التفويض حتى أثر عنه كان يقول : ( الإنسان مجبر ظاهرا ) وهذه مقالة دقيقة لا تخفى على الراسخين في العلم والعارفين بتفاصيل العقائد الإسلامية وهناك صورة خاصة نختم بها حديثنا في هذه المقدمة ، هي قول الإمامية في ( البداء ) ومعناه الظاهر فعل الشئ ثم محوه ، وقد قال به الإمامية في حق الله تعالى حتى أثر عنهم : ( ما عبد الله بشئ مثل القول بالبداء ) ولما كان البداء من صفات المخلوقين لأن فعل التي ، ثم محوه يدل على

- ص 39 -

التفكير الطارئ وعلى التصويب بعد الخطأ وعلى العلم بعد الجهل فإن كثيرا من المفكرين سفهوا عقول الشيعة في نسبة البداء إلى الله سبحانه ، والشيعة الإمامية براء مما فهمه الناس عن البداء إذا المتفق عليه عندهم وعند علماء السنة أن علم الله قديم منزه عن التغيير والتبديل والتفكير الذين هو من صفات المخلوقات ، أما الذي يطرأ عليه التغيير والمحو بعد الإثبات فهو ما في اللوح المحفوظ بدليل قوله تعالى : ( يمحو الله ما يشاء ويثبت ) ولنضرب مثالا لذلك يبين معنى البداء الإمامية : فلان من الناس كتب عليه الشقاء في مستهل حياته ، وفي سن الأربعين تاب إلى الله ، فكتب في اللوح المحفوظ من السعداء .

فالبداء هنا محو : اسمه من باب الأشقياء في اللوح وكتابته في باب السعداء أما في علم الله فيشمل جميع تاريخ هذه المسألة من إثبات ومحو بعد التوبة أي أنه سبق في علم الله أن هذا الشخص سيكون شقيا ثم يصير سعيدا في وقت كذا حين يلهمه التوبة .

إن البداء الذي يقول به الإمامية هو قضية الحكم على ظاهرة الفعل الإلهي في مخلوقاته ، بما تتطلبه حكمته فهو قول بالظاهر المترائي لنا ، وإذن نوجه الإشكال في الذين خطأ والشيعة في قولهم بالبداء إنما جاء من زعمهم أن الشيعة ينسبون البداء إلى علم الله القديم لا إلى ما في اللوح المحفوظ ولذلك بما قدمته لك من بيان ضاف تكون وقفت معي على ما في عقائد الإمامية من وجاهة في قلوبهم بالبداء ، وما في تفكيرهم من عمق في الحكم به لأن معناه - في نظري - أن سبحانه يطور خلقه وفق مقتضيات البيئة والزمان اللذين خلقهما وأودع فيها سر التأثير على خلقه ولو ظاهرا

- ص 40 -

إن القول بالبداء هو : المقالة الوحيدة التي نستطيع بهيها إن نفسر لك سر الناسخ والمنسوخ في القرآن كالحكمة فيها ورد من آيات تحريم الخمر ، وكيف تدرج ذلك التحريم في صورة مراحل ليعالج سبحانه بذلك اعوجاج النفس البشرية ويخلصها من قيود العادة المستحكمة شيئا فشيئا حتى يتحقق لهذه النفس صلاحها ، ولو حرمها مرة واحدة لكان في ذلك ما فيه مشقة على النفس ! فذلك هو اعتقاد الإمامية في البداء .

ويسرني أن أنوه في هذا المقام ما أزمع القيام به من تقريب بين المذاهب الإسلامية في كتاب مفرد أرجو بتوفيق من الله أن أوضح فيه إلى أي حد تتفق هذه المذاهب في الجوهر والأهداف وإن اختلفت في المظهر والطرائق وبعد فإني أهنئ الأستاذ المؤلف فيها وفق فيه من الجمع بين المنقول والمعقول في عرض عقائد الإمامية ، وقد أتحف به قراء العربية من ثقافات عقيدية عن الإمامية جمع فيها بين الاحتجاج للرأي ، والإجادة في الأداء وفي هذا القدر كفاية لمن أوتي حظا من الإنصاف والتأمل


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net