معركة النقعة
- هذا ساجد، أطلبيه يعاونك على حملها..
- خير يا حجة!
- إن شاء الله خير يا روحي! أريد أن أنقل كرتونة البطاطا هذه إلى منزلي ولا استطيع حملها!
- أنا بأمرك يا حجة.
- الله يسلم دياتك يا أخ ساجد.
وبخفة وسرعة استقرت الكرتونة على كتفي ساجد، وفيما كانت الحاجة العجوز تخترق تجمعات الناس في سوق معركة وساحتها العامة كان ساجد يتبعها ثم أدلف يمشي وراءها من زقاق إلى زقاق وهي تردد
- الله يحفظك، الله يرجعك إلى أمك..
ووصلا إلى باب دارها، ورفعت يديها بالدعاء:
- الله ينصركم على اليهود..
- أأمري يا حاجة! هل من شيء آخر؟
- الله يسلم أياديك..
وفيما هو يهم بالانصراف فوجئ بعلي سليمان الذي ما إن رآه حتى توقف وكأنه يبحث عنه..
- عجّل قليلاً! الإخوان ينتظرون..
وأسرعا الخطا، ثم اختفيا في آخر الزقاق، وكان البيت الذي اتخذوه مقراً للقيادة دافئاً عبقت داخله رائحة عطر محبّب وأسدلت على نوافذه ستائر محكمة الإغلاق.
ما إن دخل فارس حاوي (ساجد) وعلي سليمان إلى الغرفة التي ازدحمت برجال المقاومة خضر الجوني ومحمد حدرج ومحمد زيدان وعادل الزين وصالح حرب حتى صدرت تنهدات ونهنهات مختلفة فقد كان الاجتماع على وشك الابتداء..
- أين أنت يا عم؟
- هذا ساجد وعباس قد أتيا..
ولم يلبثا أن وجدا مكاناً بينهم..
- أين علي بدوي؟ سأل علي سليمان..
- عنده شغل.
وساد بعد ذلك صمت، قطعه خضر الجوني (صادق):
- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، الفاتحة لأرواح الشهداء!
وساد بالغرفة صمت وأصوات همس الرجال بسورة الحمد!! وما إن انتهى خضر الجوني من قراءة السورة حتى بادر إلى الكلام:
- يا إخوان، بعد نجاح عمليات طريق جويا البازورية، كثّف العدو دورياته على هذا الخط، واستحدث موقعاً جديداً بين البازورية ووادي جيلو، وقد جهدنا في استطلاع تحركات العدو.. وسوف نقوم بتكرار الكمين على الطريق العام للبازورية، وبما أنكم جميعاً قد اشتركتم في الاستطلاع سوف نختار الآن المجموعة التي سوف تقوم بالعملية.. وران على الجميع صمت، وحدّقت العيون بخضر الجوني (صادق) الذي ابتدأ من يمينه
- عباس (علي سليمان)
وارتسمت على ميحا علي سليمان إمارات الارتياح ظهرت بابتسامة واستمر خضر الجوني يجول بعينيه في الباقين وهم يبادلونه التحديق، ينظرون إلى عينيه الخضراوين نظرات رجاء وتمني..
- (رضا) محمد حدرج
وكبر محمد حدرج تكبيرة الفائز بينما جمدت وتيبست أطراف الباقين..
- محمد زيدان..
وارتفع صوت الشيخ محمد زيدان بالصلاة على محمد وآل محمد وأردف صادق بسرعة:
- يكفي أربعة يا إخوان.. فالعملية لا تحتاج إلى أكثر من ذلك.. وهنا صدرت نهنهة من أحدهم، فالتفتوا إليه، فإذا بفارس حاوي (ساجد) مطرقاً يبكي، وهو يحاول إخفاء دموعه بلملمتها بسرعة، متحاشياً أن ينظر الآخرون إليه وهو يحاول جاهداً أن يكتم أثره، فبادره الشيخ محمد زيدان:
- لا تزعل يا أخ ساجد، نحن بأمرك، إذهب بدلاً مني (ثم التفت إلى صادق وكأنه يستأذنه بنظرة استعطاف وقد ترك القرار له) فابتسم ثم ضحك قائلاً:
- توكلنا على الله، حسناً! ليذهب الأخ ساجد بدلاً من الشيخ محمد، بس لا تزعل يا أخ ساجد!!
وهنا نهض ساجد من مكانه جاثياً على ركبتيه، عبر الغرفة إلى حيث الشيخ محمد زيدان الذي تأهب جاثياً أيضاً يستقبله في حضنه بينما كان ساجد يلفه بذراعيه ويقبله ويبكي، فيما كانت دمعة تنفر من عيون الباقين بذلوا جهداً في إخفائها..
وحاول خضر الجوني استدراك جو الانضباط والعمل في الجلسة فقال:
- صلوا على محمد وآل محمد يا إخوان (ثم استطرد) ما زال هناك نقطة مهمة في عملنا تتعلق بما عزمنا عليه وهي أن نكلف الأخ صالح حرب باستطلاع طريق البازورية إلى زمان تنفيذ العملية.. ماشي الحال يا أخ صالح؟
- الإتكال على الله..
في اليوم نفسه، شرع صالح في مهمته وأخذ في الأيام التالية يبذل جهداً مضاعفاً في رصد الدوريات الإسرائيلية ويكرر التردد إلى البازورية سواء في سيارة أو على دراجة نارية أو ماشياً عبر الطرق الترابية المؤدية إليها من طيردبا مروراً بوادي النقعة الذي يقع في الوسط بين القريتين، فكان يتسلق سفح الجبل المؤدي إلى البازورية حيث الطريق العام ويقوم باستطلاع مكان الكمين المزمع نصبه فيه.
كرر صالح حرب المرور أمام حاجز الدوليين من الفرنسيين وأحياناً كان يجلس على الصخور لساعات غير آبه بهم وبما يشكلونه من أخطار على العمل المقاوم..
إلى أن كان يوم قبل قيام الرجال بتنفيذ العملية حيث فوجئ صالح بحاجز إسرائيلي في قلب البلدة وقرب المكان الذي ينوي الرجال تنفيذ عمليتهم فيه، ولم تنفع كل حيلة وكل ما حاول صياغته من ادعاءات في الإفلات من الأسر فقد صمم اليهود على اعتقاله.. ومنذ ذلك اليوم غاب صالح حرب عن ساحة القتال ليمكن في سجن عتليت في الأرض المحتلة فترة طويلة من الزمن..
ولم تصل أخبار اعتقاله إلى الشباب في معركة، بل بقي غيابه غامضاً غير مفهوم، بينما كانوا يستعدون لخوض المعركة وهم لا يعلمون أن لغيابه علاقة بعمليتهم، وأن العدو بالتعامل مع الدوليين قد يكون قد استشم رائحة عمل للمقاومة في هذه المنطقة، ومع أن اعترافاً واحداً لم يحصل عليه العدو من صالح حرب طيلة فترة التحقيق معه، بل أبقى حتى اسمه سرياً إلى فترة طويلة، فإن العدو في اليوم التالي لاعتقاله نصب كميناً عند المكان الذي اعتقله فيه.
لقد كان طريق جويا صور طريق الرعب عند قوات الاحتلال فقد خسرت عليه العشرات من جنودها وسقط العشرات جرحى وأحرقت العشرات من الآليات، فابتداءً من شهر آب 1983 إلى أواخر عام 1984 أحصت الأطراف المختلفة ما لا يقل عن ستين عملية على هذا الطريق، كان أكثرها عبوات ناسفة أقلقت الاحتلال وقضّت مضاجعه، فاستحدث مواقع جديدة محصنة، وسيّر دوريات مكثّفة ومؤللة وراجلة، وأخذ يزرع الكمائن المختلفة خصوصاً حول تلك الطرق العامة أو الممرات الترابية التي تؤدي إلى معركة..
وفي اليوم الثالث والعشرين من شهر شباط 1985، ومع أن الإسرائيليين قد هاجموهم إلى هذا اليوم عدة مرات، وأصبح الوضع حساساً جداً، فقد دارت معاركة وأريقت دماء، ولكن بلدة معركة كانت تترك في أذهان الرجال أثراً طيباً مفرحاً، ولعل ذلك لأنها جزء أصيل من جبل عامل، بتراثه وتقاليده، يظهر في التعابير والكلمات وفي الأنس والجو العائلي المفعم الذي يلف كل من يتنسم هواء هذه البلدة، ولعل ذلك هو لتباشير الربيع الذي يدخل في بلادنا باكراً كل عام ويرسل أمامه رسلاً تبشر بقدومه، أزهار اللوز، والأقحوان، والسكوكع، وتكون التربة قد أخذت تجف في شباط الذي تبقى رائحة الصيف فيه مهما سقط فيه من أمطار، وتنتشر رائحة البراعم وأنفاس الأرض المحروثة ويكثر طلوع الشمس وإطلالها من خلف الغيوم الراكضة، كما أن بعض النسائم تأخذ بالهبوب من جهة القبلة فتبعث مع ارتفاع الشمس الدفء في أوصال الرجال، وفيما كان برد شباط ما زال يلوح في الظلال ويذكّر بوجوده عند كل نسمة تتمايل لها زهور الوادي، كان أربعة رجال المقاومة ينسلون من بين آخر بيوت قرية طيردبا وينحدرون باتجاه وادي النقعة وهم يلتفتون بين الفينة والأخرى نحو علي بدوي الذي أوصلهم بسيارته ووقف يلقي عليهم نظرة لم يكن يعلم أنها ستكون الأخيرة..
صادق، عباس، رضا، وساجد، ينتقلون بخفة وصمت وتقطّع، فيقفون برهة، يربضون كل في مكانه، ويجولون بأنظارهم في أرجاء الوادي، ثم يصعدون في السفح باتجاه البازورية، يراقبون كل صخرة وكل شجرة، إلى أن تصل عيونهم إلى الطريق العام فتقف عند سيارة مارة أو عند مجموعة أشخاص تلاحظهم وتعدهم.. وبعد برهة، وبإشارة من خضر الجوني (صادق) يستمرون في المسير الحذر، متباعدين، ثم ابتدأوا في سلوك القادوميات الصاعدة باتجاه البازورية، إلى حيث رسم صادق شكل الكمين ووضع خطته، وأخذ السفح يحتدّ ويصعب، فكانوا بأسلحتهم الخفيفة وذخيرتهم المحدودة يعبرون العوائق صاعدين غير مبالين.. بينما كان موقف الفرنسيين من القوات الدولية يلوح في أعلى المرتفع..
كان الهدف إبادة دورية إسرائيلية راجلة تأتي كل صباح إلى الطريق العام مارّة بهذه المسافة التي تشرف على السفح من خلال كمين طولي ثم الانسحاب عبر الوادي إلى طيردبا فإلى معركة، وبقي إلى الطريق عشرات الأمتار..
- اليهود فوقنا يا إخوان!!
صرخ فارس حاوي (ساجد)! بصوت بين الجهر والإخفات، وكأنه كان يريد دفن صوته في حنجرته، يريد أن يسمعه رفاقه ولا يسمعه اليهود، وبينما كان الرجال يسارعون إلى الأرض، ويلوذ كل بما أمامه من صخرة أو مرتفع أو أجمة، وينظرون تارة إلى ساجد يستوضحونه صرخته وأخرى حولهم وثالثة إلى المرتفع يفتشون عن حقيقة وجود اليهود، كان صادق قد نهض واقفاً يستطلع حقيقة الموقف.. ثم يعود ليربض وراء صخرة ويلتفت إلى الإخوان:
- كمين! لقد نصب لنا اليهود كميناً!
وضحك فارس حاوي (ساجد) وقال:
- الشهادة تحوم حولنا يا إخوان!
ثم رفع صادق رأسه ثانية لثوان ليعود ويلتفت إلى رفاقه ويشير لهم بأصابعه وبحركة من يده إلى شكل الكمين ومواقع اليهود وأعدادهم التي أحصاها..
وتدخل علي سليمان:
- ما العمل؟
فأجاب صادق:
- لا يمن الانسحاب، فإنهم متمكنون من السفح ويسيطرون بالنيران حتى بيوت طيردبا، ولا يمكن البقاء هنا وإلا سوف نقع أسرى!
فقال (رضا) محمد حدرج:
- إذن، لنتوكل على الله، إلى الأمام..
والتفتوا إلى بعضهم البعض، وكانت المسافة بينهم غير بعيدة، فأخذوا يزحفون ويتسللون بخفة عن الكمين كي يلتقوا.. وتحقّق التقاؤهم تحت جدار ترابي.. وبعد كلمات قصيرة استمرت لثوان من خضر الجوني، مدربهم في جنتا وقائد المجموعة، رسم خلالها خطة الهجوم قال:
- توكلنا على الله يا إخوان؟
أجابوه جميعاً: توكلنا على الله..
ولم تفتهم في هذه اللحظة الرقة والحنان، ولم يتمالكوا أنفسهم، فأقبلوا يتبادلون الاحتضان بل والاستغراق فيه أحياناً!
- سامحونا يا إخوان!
خرجت وكأنها كلمة وداع، وطفرت معها دموع الحب فكفكفها بعضهم بطرف كمه بينما تركها البعض الآخر تنحدر على خديه لتغسل لوعة الفراق.. وحسم صادق الموقف وربت على كتف علي سليمان..
- يا الله يا الله! توكلوا على الله يا إخوان..
وبخفة نمور جبلية انتشروا طولياً، وباعدوا بينهم وشكّلوا نسقاً هجومياً بطول ستين متراً.. وأخذوا يصعدون بحذر زحفاً باتجاه الكمين يحاولون قلب المفاجأة وانتزاع المبادرة..
ولم يطل الوقت، فقد وقف خضر الجوني (صادق) منتصب القامة ورمى الصلية الأولى طويلة، وتلاه فوراً بقية أفراد المجموعة، ونشبت معركة مواجهة يفصل بين المتبارزين فيها أمتار، ولكن الرجال حرصوا وهم يطلقوا النار على أن يهدفوا ويصيبوا برشقات قليلة متقطعة فيما كانوا يحاولون تبديل مواقعهم للتمويه على العدو الذي كانت رشاشاته المتوسطة ترمي بغزارة..
ومضت عشر دقائق، ولم تستطع غزارة نيران العدو حسم المعركة لمصلحته، وهنا ظهر في أفق السمع ما أقلق الرجال، فسكتت بنادقهم قليلاً لاستيضاح الموقف، وإذا بمروحية هجومية تحلق فوق طيردبا، خلفهم، وتأخذ بالرماية باتجاههم بغزارة، مما قلب الموقف تماماً.
كانت التراب يتناثر إلى أعلى، والشرر يقدح كلما اصطدمت صلية من الطائرة بالصخور ويسمع صوت تكسر جذوع الأشجار وتنتشر شظايا القذائف حول الرجال تخطف الأبصار نيران رشاشاتها المرتجة، فوثب علي سليمان إلى شق في الأرض مغطى بالنباتات البرية ممسكاً بندقيته بكلتا يديه وقد ضغط صدره بالأرض قدر استطاعته، بينما بقي محمد حدرج مكانه وقد فاجأته الطائرة بصلياتها المتلاحقة، كان كلاهما ينظر بصمت عابس وتوتر باتجاه واحد، حيث كان خضر الجوني وقد استلقى نصف استلقاءة في بدلته المموهة فلاح شعره المجعد الفاحم لهما معفراً بالغبار الذي تنثره طلقات رشاش الطائرة المروحية وكان الألم يطل من عينيه المدورتين.. ثم وقف فجأة وأخذ يطلق النار على اليهود بكل قوته وهو يتقدّم غير آبه بالنيران.. وقد صك على أسنانه، فالآن لم يعد أحد قادر على تقييم كل شيء بدقة وبشكل واقعي. وفرغت ذخيرته في تلك اللحظة فيما كانت عدة فوهات تصب نيران قذائفها في جسده الطاهر فارتمى بين الأزهار والصخور وأخذت دماؤه تسقي أشواك البلان الخضراء العاملية، ولم يثن منظره يستشهد ساجداً أو رضا عن الاقتداء به فوقفا منتصبين وأخذا يطلقان النار على الجنود الرابضين الذين كانوا برشاشاتهم المتوسطة يتفوقون بالنيران، وحسمت المعركة وفرغت ذخيرة الرجال وسقط ساجد شهيداً، وتلاه محمد حدرج، الذي أصيب ولكنه لم يستشهد فوراً، فأخذ يزحف بعيداً عن عيون اليهود، فيما كانت بندقية علي سليمان تزغرد بتقطع وخفة، بصليات قصيرة، وبين صلية وصلية كان يبدل مكانه، إلى أن ضغط على الزناد وجاءه الجواب، وقع الطارق بلا صوت طلقة، فقد فرغت ذخيرته أيضاً..
- ما العمل؟ لقد استشهد الشباب جميعاً ولم يعد معي طلقة واحدة؟ ولو بقي عدة طلقات للحقت بهم على الأقل..
أخذ يرتجف مبتعداً عن ساحة المعركة، فيما بقي اليهود يصلون أماكن الرجال بنيرانهم، من الكمين ومن المروحية التي كانت تدور بجنون في سماء الوادي.
ورغم الألم الذي كان يمزّق صدره وبطنه، ورغم النزيف الحاد، بذل رضا جهداً مضاعفاً للابتعاد عن ساحة المعركة، فكان يزحف وبإصرار، رغم الأشواك والصخور، وبدون تردد، ومن غير أن يلتفت، ولعله خشية من الوقوع في الأسر، حتى وصل إلى مغارة صغيرة اختفت خلف أجمة صغيرة، قد يكون استطلعها في يوم ما فحفظ في ذاكرته مكانها، ووجدها الآن، فأدلف داخلها وارتمى وهناك لفظ أنفاسه الأخيرة واستشهد فيما كان علي سليمان يزحف أيضاً مغادراً ساحة المعركة وحلبة النيران ولكن باتجاه آخر غير الذي سلكه (رضا)، ولم يدر بخلده إلا أن الثلاثة قد استشهدوا، حتى وصل إلى كومة من الحطب انسل تحتها وسد الثغرة بالحطب خلفه وأخذ ينظّم أنفاسه، ثم شهر مسدسه التوغاريف وجهز طارقه للرمي وهو يراقب من بين الحطبات ما يجري حوله..
كان يفصله عن اليهود في أعلى الربوة مئتا متر، وكان شعور بعدم وجود مخرج له يغمره وكأن شيئاً مستحيلاً قد حدث، شيئاً من الصعب تصديقه، وكأن كابوس، كان يتصور قبل قليل أنه على أبواب الشهادة وأن جسراً مزداناً قد فتح أمامه.. إلا أنه الآن يشعر وكأن كل الأبواب قد أغلقت تماماً..
كان اليهود ينزلون من الربوة وهم يطلقون رشقات متقطعة وكأنهم يتحسسون الوضع ليعرفوا ما إذا كان هناك شخص حي.. بينما كانت يده تضغط على المسدس وقد تحولت برودته المميتة إلى حرارة تسربت إلى قلبه.. وبعد دقائق أخذ الجنود الصهاينة اليهود ينتشرون في الوادي وفي السفوح، ثم هدرت أصوات المروحيات الإسرائيلية
- واحدة، اثنتان.. عندهم إصابات! (همس بصوت خفيض)
كم سقط لليهود في تلك المعركة؟ لقد بقي الأمر مجهولاً مكتوماً إلى اليوم.
وغادرت المروحيتان، ثم جاءت بعدها مروحيتان أخذتا تحومان فوق الوادي وفوق وادي الحظايا، بينما كان الجنود ينتشرون بالعشرات وهم يبحثون وينقبون مهووسين فلم يجدوا سوى جثتي (صادق) و(ساجد)، ولكنهم لم يفارقوا الوادي لعدة ساعات، فيما كان علي سليمان جامداً يراقبهم، تارة يقتربون منه وأخرى يبتعدون.. والعصافير تزقزق فوق رأسه وفوق الحطبات، ثم أخذ الجنود اليهود يختفون بينما استبدّ به التعب، فغفا ونام ليستيقظ قرابة العصر وقد ابتدأت شمس ذلك اليوم الشتوي رحلة الأفول نحو الغروب..
هل يخرج الآن أم ينتظر إلى الليل؟
فأخرج القرآن الكريم من جيبه وفتحه وقرأ أعلى الصفحة قوله تعالى (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا) ففهم منها الانتظار، وهكذا لبث حتى هبط الظلام، ثم بادر إلى الخروج ليصل بعد ساعة إلى معركة يزف نبأ شهادة خضر الجوني (صادق) ومحمد حدرج (رضا) وفارس حاوي (ساجد)..
في صباح اليوم التالي فوجئت طيردبا بالآليات الإسرائيلية ومئات الجنود يحاصرون البلدة ويمنعون الدخول والخروج، ثم تقدمت جرافة تحميها الدبابات والجنود وجرفت بيتين مطلين على الوادي انتقاماً للخسائر التي تكبدوها في معركة الأمس.
وما إن فك الحصار وانسحب اليهود حتى بادر بعض الأهالي إلى النزول إلى وادي النقعة فوجدوا جثتي صادق وساجد ولم يجدوا جثة رضا، فظنوا أنه وقع أسيراً بأيدي اليهود، الذين كانوا يسيطرون تماماً على أرض المعركة، وبقوا عدة ساعات فيه يبحثون عن الرجال..
هذا ما اعتقده الجميع، إلى أن انقضى أكثر من أربعين يوماً على معركة النقعة فانتشر خبر وجدان جثة في غار في الوادي من قبل أحد الفلاحين، وكان يوسف حدرج صدفة في طيردبا فتعرف على أخيه من خلال ثيابه وساعته.
بعد أسبوع واحد من العثور على جثة محمد حدرج وبينما كان يوسف حدرج (محسن) يخرج من وادي عين شرغيت باتجاه العباسية فوجئ بكمين إسرائيلي مزق سيارته بالرصاص الثقيل مما أدى إلى اشتعال السيارة فوراً ولم يتمكن من مغادرتها لعدة رصاصات اخترقت جسده فألقى رأسه على المقود وهو يكبّر ولفظ أنفاسه الأخيرة.
***
كان الوضع السياسي لمعركة يثير انتباه الغزاة الصهاينة في كل يوم جديد يمر على المقاومة، فقد كانت إدارة المواجهة للمحتلين والحماية الشعبية للمجاهدين الذين اتخذوا البلدة قاعدة انطلاق لهم مما أدى إلى أن تتصدر معركة وقيادة محمد سعد وخليل جرادي لهما مكاناً مميزاً في الإعلام والصحافة تحرج القيادة الإسرائيلية وتضعها أمام مأزق انسجام الحالة الشعبية مع المقاتلين وتوفير الحماية لهم واحتضانهم والتستر عليهم مما كان يعني أن المحتل سوف يتلقى الضربات من المقاومين المقاتلين بينما هو لا يستطيع مطاردتهم وقتلهم.
كل ذلك دفع بالقيادة الإسرائيلية إلى الدخول في خطوة جديدة للقضاء على الحلقة الأساسية في هذه الحماية وهي شخص هذين القائدين.
في صبيحة الثاني من آذار من عام 1985 وبعد أن حشد اليهود مئات الجنود وأكثر من مئة آلية بين دبابة ومجنزرة وسيارة جيب وجرافة، قامت القوات الإسرائيلية بقيادة الجنرال أوري أور شخصياً باقتحام البلدة، فيما كانت المروحيات تغطي الهجوم بإطلاق زخات رشاشاتها الثقيلة على البيوت والأحياء عشوائياً.
وكالعادة، تحركت قطعات الشعب والمقاومة، فالمقاتلون انسحبوا فوراً إلى مخابئهم السرية ونزل الأهالي إلى الشوارع والأزقة يحرقون الإطارات ويضعون هياكل السيارات القديمة والمحترقة في عرض الطرق، بينما كانت الدبابات والمجنزرات تقتحم الشوارع وتسحق الحواجز وتتقدم داخل البلدة وهي ترمي بغزارة.
أخذت المواجهة بعداً خطيرة هذه المرة، فقد منع الغزاة الصحافيين والإعلاميين من الدخول وتغطية الحادث كما منعوا الصليب الأحمر الدولي وقوات الأمم المتحدة من الاقتراب.
وبعد أن سيطرت القوات الإسرائيلية على كامل شوارع البلدة وأزقتها أعلنت بمكبرات الصوت الطلب من النساء والفتيات التجمع في الحسينية ومن الرجال والفتيان التجمع في ملعب المدرسة..
وأخذ الجنود الصهاينة يقتحمون البيوت ويفتشونها بحثاً عن رجال المقاومة فيما كانت المروحيتان تمشطان الأجواء بصليات من الرصاص الثقيل وتغطيان الجرافة التي كانت تجرف البيوت المشتبه بتعاونها مع المقاومة..
وفيما كانت الشوارع خالية إلا من اليهود المحتلين وصلت شاحنة عسكرية ثم توقفت أمام الحسينية، ثم استدارت ورجعت القهقرى حتى أصبحت خلفيتها ملتصقة باب الحسينية وابتدأ الجنود في ورشة نقل من الشاحنة إلى داخل الحسينية، لم يتبين من كان يراقبها كنهها إلا بعد يومين إذ كان خبراء المتفجرات اليهود يزرعون عبوة ضخمة داخل مكتب محمد سعد وخليل جرادي على سطح الحسينية.. وقد ساورت الشهيدين شكوك إلا أنهما لم يفلحا رغم التفتيش الدقيق في العثور على العبوة المفترضة التي كانت مموهة ومزروعة بشكل استخدمه فيه إسرائيل كل عبقرية التكنولوجيا العصرية.
في اليوم نفسه، الثاني من آذار، انسحب اليهود وعاد الرجال وأهل البلدة إلى التحرك، وبقي لغز ما فعله اليهود في الحسينية محيراً، حتى أن خليل جرادي كان متردداً في الدخول إلى مكتبه لولا الاستخارة، فكأن الله أراد له ولمحمد سعد خاتمة الشهادة فانفجرت العبوة بهما وبآخرين ممن كان يعاونهما في توزيع مواد تموينية على الأهالي..
كان ذلك في اليوم الرابع من آذار، فوجهت بذلك إسرائيل ضربة قوية إلى القيادة التي كانت تحمي رجال المقاومة وتغطيهم، فخسرت المقاومة بهذه الضربة ركنين من أركانها، إلا أن الفجر كان يلوح في الأفق وكانت بيارق النصر والتحرير قد أخذت تخفق فوق رؤوس الرجال، فكانت هذه الضربة الإسرائيلية قد جاءت متأخرة جداً إذ قد وفى محمد سعد وخليل جرادي بما عليهما عمله وقاما به خير قيام، واستطاعت خلايا المقاومة التي اتخذت معركة قاعدة لها تحويل مثلث الحديد، منطقة صور، إلى جحيم يحرق الغزاة ويجعل أيامهم في بلادنا معدودة.
***
وهكذا، تصرّمت صور جميلة وأصوات حنونة ملأت قلب علي سليمان وعلي بدوي، فترك استشهاد كل هؤلاء الرجال في نفسيهما وحشة وغربة فاختفت البسمة من وجهيهما، وسيطر على نظراتهما شرود ووجوم وحزن.
لقد مرت الأيام كثوانٍ خاطفة كالبرق، خطفت معها وبلمحة واحدة كل أولئك الذين ملأوا حياتهما دفئاً وحباً، فشعرا وكأنهما لم يعرفاهم حق معرفتهم ولم يشبعا قلبيهما من حبهم ولم ترتو عيناهما من وجوههم.. فإنهما مازالا يتذكران أصواتهم، ونظراتهم، فكانت تتردد في حناياهما وكأنهم ما زالوا أحياء وأنهما سوف يلتقيان بهم من جديد.
كانا يبدوان فزعين ولكن ليس من القتال والمعارك، بل من الفراغ والوحدة التي أخذت تلوح وتبدو في سكون فظيع، وكاد محيطهما يبدو وكأنه لم يعد أحد فيه حولهما..
وكانت العمليات ضد اليهود هي فقط التي تسليهما وتنتزعهما من الهموم التي تركتها في نفسيهما تلك الأسماء والصور التي كانت لا تكاد تفارق خيالهما، فما إن انتهيا من عمل من أعمال المقاومة حتى يعود إليهما شرودهما وتلك النظرة الساهية المتطلعة إلى البعيد.
***
في صبيحة يوم الرابع عشر من شهر آذار من سنة 1985، كان علي سليمان على موعد آخر مع أهله ومعها لكي يأتوا جميعاً في وفد إلى معركة لطلب يد تلك التي اختارها في خضم المعارك والحصار، ومن خلال دخان القذائف وشظاياها، لتكون شريكة حياته، فقد كانت رحلة الزواج هذه تتعثر في كل أسبوع، وها قد مضت ستة أسابيع على إعطائه لأهله الإشارة الأولى للتوجه إلى معركة، فمن يوم الأحد إلى يوم الأحد التالي من كل أسبوع كانت تتفاقم أمور، وتحصل تطورات، وتنفجر معارك وصدامات، وكأن الله تعالى أراد هو أن يطلب له يد حورية وأن يزفها له عنده في جنان الخلد.
اقترب من أمه، قعد أن قرروا غداً موعداً جديداً للتوجه إلى معركة، فقال لها، وقد حاول أن يكون جدياً لكي لا تفاجأ بما سوف يقوله:
- سوف أقول لك شيئاً مهماً!! أنا اسمي عباس ناصر واسم أمي سنية!!
نظرت إليه أمه باستغراب.
- مين عباس ناصر؟ ومين سنية؟ ماذا تقصد؟؟
وهنا تدخل والده:
- يا أم عبد الله، قصده أن يقول إن له اسماً عسكرياً غير اسمه الحقيقي وهو معروف بالاسم الثاني في معركة وعند العروس!
- وهل تريد أن تتزوجها وهي لا تعرف اسمك الحقيقي؟؟
- يا أمي يا حبيبة قلبي خلينا (نمشّي) الشغل بكرة (وبعدين الله بيفرجها)
في صباح اليوم التالي، يوم الطلبة، في الرابع عشر من آذار، وفي مكان بعيد عن العيون، كان ثلاثة رجال يقومون بتركيب عبوة من كمية ضخمة من المتفجرات في شاحنة صغيرة، وكان الهدف نسف قافلة إسرائيلية على طريق ديرقانون رأس العين الحنية في عملية استشهادية، وكان على الاستشهادي أحمد الحسن أن يقود الشاحنة إلى الهدف وأن يقوم هو بتفجيرها بنفسه، ولكن كان على علي بدوي أو علي سليمان أن يقود الشاحنة من معركة إلى مكان قريب من الهدف فقد كانت الحواجز الإسرائيلية توقف السيارات التي لا يكون فيها مع السائق شخص آخر، لذلك كان على أحدهما أن يرافق الاستشهادي إلى مكان قريب من الهدف، وربح علي سليمان معركة النقاش الذي دار بينه وبين علي بدوي في من يقود الشاحنة، بعد أن بدا مصمماً وأصر على ذلك وقطع على زميله كل مسوغاته.
وهكذا تحركت القافلة، علي سليمان يقود الشاحنة وإلى جانبه أحمد الحسن، بينما كان علي بدوي يتبعه في سيارة ويحرص على إبقاء مسافة بينهما، وكتب الله لهذه القافلة أن تمر في قلب باتوليه، وفي شارعها العام، والعيون العميلة تعد التحركات، ولا شك أن صورة علي سليمان وهو يقود الشاحنة كانت مما يلفت نظرهم، فلم تمض دقائق على دخوله البلدة حتى حلقة مروحية يهودية بارتفاع منخفض وأخذت تدور في أجوائها، وما إن غادرت الشاحنة أطراف البلدة وسلكت طريق البساتين حتى كان العملاء الذين أعدوا كميناً محكماً بين أشجار الليمون قد تمكنوا منها فرماها أحدهم بقذيفة مقنبلة، ولعله لم يكن يعلم أنها قد أعدت لعملية تفجير كبيرة، وأنها تحمل كمية هائلة من المتفجرات، فدوى انفجار رهيب وارتفعت كرة ضخمة من اللهب، واهتزت المنطقة كلها، وظن كثير من الناس أن المروحية الإسرائيلية هي ا
|