متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
الحب الكبير
الكتاب : قصص الأحرار ج4    |    القسم : مكتبة القُصص و الروايات

الحب الكبير

 

      ربنا! إذا ما جعلتنا نحب الآخرين أكثر مما يحبوننا فازرع في قلوبنا المملوءة حباً لهم صبراً كي لا نشقى بفراقهم أكثر مما يشقون بفراقنا ... يا إلهي

      اشتدت وطأة المطاردة لعلي بدوي وعلي سليمان، وانتشرت عيون العملاء في القرية تطوف الأزقة وتحصي الحركات والسكنات باحثة عن هدف المخابرات الإسرائيلية رقم واحد في منطقة صور، علي بدوي وعلي سليمان.. وأظهرت سرعة وصول اليهود إلى البلدة دقة المراقبة عند العملاء، مما دفع برجال المجموعة إلى تبديل مواقعهم باستمرار والدخول والخروج بسرعة حتى ولو لم يتأكدوا من وجود عملاء يراقبونهم. حتى أنه في إحدى ليالي شهر رمضان ولم يمض على تسلله إلى بيت أمه وإحضاره الطعام للشباب من عندها أكثر من دقائق، حتى كانت المخابرات تقتحم البيت والضابط اليهودي يصرخ في وجه أمه:

-      الآن كان علي هنا وأخذ صينية عليها طعام! أين هو؟ وإلى أين أخذها؟

لقد كان منزل خالته من الناحية الأمنية مناسباً لوجود مخرجين له كما كان كذلك من جهة أن العملاء لم يحتملوا وجوده عندها، ولم تكن أمه تجرؤ على الذهاب إلى بيت أختها خوفاً من أن ينكشف للعملاء.

      وفي بيت خالته، حيث عاش حرارة المطاردة والخوف وأعلى نسبة من الحذر عرفها، ابتدأت خيوط من حرير تنسج شبكة وقع فيها قلبان كبيران، فلم يكونا يدركان وهم يعيشان حرارة العمل وآثاره وحكاياته أنهما ينسجان حولهما شرنقة شاء القدر أن لا تكتمل فصولها وأن تحولها شهادة علي إلى أحلام وذكريات.

كانت ابنة ثلاثة عشر ربيعا، وكان يجد فيها أماناً عند لحظة خوف ومستقراً عن لحظة مطاردة، وصدراً تنبو منه شهقة، يسمعها إذا ألم به مكروه، فعلّق صورتها على جدار قلبه، وانضمت هي بدورها إلى المجموعة، فكانت تنهض من نومها كي تعدّ لهم طعاماً حتى ولو جاؤوا آخر الليل، وتنتظرهم، حتى إذا جاء دور أحدهم دخل الحمام مسرعاً وبدّل ثيابه فإنها كانت تقوم بالمبادرة إلى غسلها، بل إلى تنظيم أحذيتهم التي كثيراً ما كان يتراكم عليها الوحل حرصاً منها على عدم انكشاف أمرهم.

      وإذا أراد علي الخروج بدون مسدسه، كان يضعه في يدها، فتحتضنه وتخبئه كما كان تخبئ أسحلتهم وذخائرهم.

      وأصر عليها أن تغير نوع حجابها وأن ترتدي العباءة، فارتدتها بدون تردد وكأن رغباته أوامر.. فأخذ يجد فيها رفيقة الدرب وشريكة العمر، ولم يطل أمرهما كثيراً فقد تسربت الرغبة إلى الخالة وأختها وإلى أبي ناجي والشباب، فطلبها، ولكن أمها مازحته قائلة:

-      ولكن أين سوف تسكن ابنتي يا علي بدوي؟

فأجاب علي سليمان على الفور:

- وهل سوف ندعك تعرفين أين يسكنان؟

كانت ترى فيه خالته مشروع شهيد في أي لحظة، ولكنها وجدت أنها تحبه أكثر مما تحب ابنتها، فلم تقلق لحظة على مستقبل ابنتها وهي تعلم جيداً ما هو مستقبل علي بدوي أما هي فقد شعرت أن الله يريدها لعلي ولكنها كانت تعلم أن الله يريد علي إليه، فسكتت وانتظرت.

      وكانت فرحة المجاهدين في عرس سري شارك فيه رجال المقاومة وقد أدلهم الظلام في جبل عامل وتلبدت السماء بغيوم الشتاء السوداء وغابت الشمس باكراً تاركة العامليين يواجهون صقيع الشتاء ودبابات اليهود بوجوههم الكالحة الصفراء وقد انتشروا في كل طرقات الجنوب وعلى مفارقها ومنعطفاتها شاهرين السلاح ليطلقوا النار على أي شيء، وأقفلت مدرعاتهم الثقيلة الممرات والأزقة.

      كانوا يعلمون أن آلياتهم الثقيلة والبطيئة الحركة لا تستطيع الاشتباك مع إنسان مقاوم طليق، إلا أن رهان الإرهاب والتخويف وبث الذعر الذي عقدته قوات الاحتلال على سياسة القبضة الحديدية كان يحتاج إلى أن ينزل آلاف الجنود إلى الشوارع والطرقات وإلى أن تقفل طرق الجنوب عند كل مفترق بحاجز تشترك فيه الدبابات الثقيلة.

      وكان نصيب مثلث الحديد كبيراً من حصة القبضة الحديدية، فقد وزّعت المخابرات الإسرائيلية على حواجز هذا المثلث معلومات محددة، إنها تريد رأسين مقاومين بأي ثمن: علي بدوي وعلي سليمان، فأحيطت باتوليه من جميع جهاتها بحواجز تدقق في أوراق المسافرين القلائل في صقيع هذا الشتاء، ورغم ذلك وصل الشيخ محمد بسيارته وكان معمماً، فحدق الجندي اليهودي طويلاً في وجهه، وأخذ يدقق في إخراج قيده وفي اللائحة التي بين يديه، ولما لم يجد سبباً لتوقيفه حدجه بنظرة لئيمة وتفوه بالعربية برطانة عبرية:

-      لوين رايح؟

-      في عرس!! عرس!!

وأشار إلى محبس الزواج الفضي الذي يضعه في إصبعه وبكلتي يديه إلى ما فهم منه الجندي أن هناك عقد زواج.

فضحك ضحكة صفراء، وكأن أهل جبل عامل يستحقون القتل فقط دون الأفراح..

-      روح!!

أدلفت سيارة الشيخ بهدوء إلى داخل باتوليه بينما كان اليهود يسيرون عشرات على جانبي الطريق، والعيون الساهرة للعملاء تحدّق في المارة تبحث عن وجهين معروفين عندها: علي بدوي وعلي سليمان، ولكن الشيخ أوقف سيارته في مكان بعيد عن البيت وأخذ يسير من زقاق إلى زقاق، حتى تأكد من خلو الطريق من العيون فأدلف بسرعة إلى المنزل ليستقبله الحاضرون بالصلاة على محمد وآل محمد بهمهمة وصوت خفيض، خشية من جلب انتباه الفضوليين، وبعبق المسك والعنبر الذي فاح داخل البيت..

كانوا قليلي العدد، أهل العروس وعلي سليمان ومحمد حدرج، وأهل علي بدوي الذي ظهر في ثياب جديدة وفاحت منه رائحة المسك.. أليس هو عريس المقاومة؟!

وفيما كان الشيخ داخل البيت يعقد قران علي بدوي على ابنة خالته كان رجال مقاومون يقومون بالحراسة في زوايا معتمة على السطح وفي مداخل الأزقة، فجاء إليهم علي سليمان بنصيبهم من الحلوى واحتفظ بكمية للشباب الذين بقوا في معركة وكانوا يودون الحضور..

ثم أخذ الجميع يغادرون المنزل بالتدريج وما زالت عيون اليهود تبحث عن علي بدوي وعلي سليمان، وانقضت تلك الليلة، ودخل علي بدوي قفص الزوجية الذهبي إلا أنه أبقى بابه مفتوحاً.

ورغم أنه عقد عليها، ومع أنها أصبحت حلاله، إلا أن سلوكها لم يتغير، وبقيت العذرية سيدة الموقف، فقد كان يحرص على أن لا يضع يده في يدها أمام بقية الرجال ولكي يطيب خاطرها قال لها:

-      أخاف أن يرونا، فهم عزاب وأخشى أن يفتنوا!

-  فابتسمت، ورضيت، فقد زرع الله في قلبها إلى جانب ذلك الحب الكبير صبراً. وفي عصر يوم التفت إليها علي:

-      ما رأيك لو ذهبنا للمبيت في معركة هذه الليلة وزيارة الإخوان هناك..؟

ولم يكن يحتاج إلى التعبير بالموافقة فرغباته أوامر! ولكنها التفت إلى أمها وكأن لها الكلمة الفصل، فقالت

-      اذهب معه، فهذا أفضل له أيضاً.

وفهم علي مرادها، إنها تظن أن اليهود سوف يتسامحون في التدقيق بهويته وتفتيشه إذا كانت معه امرأة.. فابتسم وتصنع عدم الفهم، لقد كانت خالته تطمع بالكثير الكثير!

      وفي معركة، كانت نظرات النساء تقيسها من مختلف الاتجاهات، فيبدين الإعجاب بها ويعلقن:

-      عرفت كيف تختار يا علي، مبروك!

ويضحك علي معجباً وتبتسم هي مطأطأة رأسها تحدّق في موطئ قديمها حياء!

      في تلك الليلة فوجئنا باليهود يقتحمون معركة ويداهمون البيوت، وعندما حاول أن يخرج، وما إن خطى خارج المنزل خطوة، حتى كانت المجنزرات تقتحم الشارع فتراجع بسرعة ودخل البيت، ولم يتعرفوا عليه، فيما كانت هي تقف مذهولة، فقد عاشت معه حينئذ لحظة من لحظات الثمن الذي تنتظر دفعه في يوم ما.

      وفي طريق العودة إلى باتوليه همس في أذنها:

-      كأنك لست لي!!

فارتجفت، لقد كانت تريد أن لا يخرج علي من الشرنقة لأنه لن يخرج إلى فراشة تحترق في الضوء، ولكن كتب عليه السفر الذي كان يطمح إليه، فترك وراءه حريراً بارداً وأثراً من حلم وذكريات..

واندفع إلى الأمام رغم القبضة الحديدية، وقوات الاحتلال تسيطر على مفارق الطرق في المنطقة، بينما آلياتها تجول القرى وتتفحص وجوه المارة وهوياتهم، وكانت باتوليه والطرق المؤدية إليها قد أقفلت بالحواجز والمجنزرات التي اعترضت الطريق والسيارات المدنية لرجال المخابرات الذين يدققون في الأوراق ويكثرون من الأسئلة..

وغير بعيد، كانت دراجة نارية تتسلل من حاكورة إلى حاكورة ثم ثم تصل إلى البساتين، وبين أشجار الليمون، وبخفة بهلوانية وصلت إلى الطريق الإسفلتي فزادت من سرعتها، وفجأة لاح حاجز يهودي فقرص علي سليمان المقود وكبح جماح الدراجة بسرعة وغير اتجاه سيرها ودخل في البساتين ثانية في اللحظة التي زمجرت في الهواء فوق رأسيهما صلية رشاش ثقيل أطلقت من الحاجز تجاههما.. وبينما كان علي بدوي يحيط علي سليمان بذراعيه مطمئناً وواثقاً بقيادته للدراجة النارية السريعة كانت إحدى يديه تحتضن قنبلة يدوي، نزع أمانها وشد على العتلة ولم تمض دقائق حتى كانا يعبرا البساتين ويصلان إلى البص، ويقتربان من مجموعة من الجنود ممن انتشر يزرع الرعب في نفوس العامليين، وقبل أن يتخيل أحدهم احتمالاً واحداً في هذه الدراجة النارية الآتية مسرعة، كانت الدراجة قد وصلت إلى أمتار قليلة، وبخفة ومرونة فائقة مالت إلى جانبها الأيمن بأقصى سرعتها، فيما كانت تتدحرج قنبلة يدوية بين أقدام الغزاة، فدوى في سماء صور صوت انفجار تعقبته لعلعة رصاص غزير.. ودب الذعر في الشوارع وهرب إلى مكان آمن كل من يعرف اليهود وماذا يفعلون في هكذا أحوال، ولكنهما، وهم اللذان يعرفان كل زاوية في هذه الأرض وأين تبدأ وأين تنتهي الطرقات، كانا يدفعان في طريق آخر فلم يعودا من الطريق الذي جاءا منه، فالأرض لا يفلحها إلا عجولها...

وتكثفت الحواجز من جديد، وابتدأ إيقاف الدراجات النارية هذه المرة، ومن خلال طرق تخللت البساتين كانا ينسلان عائدين إلى البلدة، وما إن وصلا إلى أزقتها حتى تبدلت مشيتهما وخطواتهما فأصبحت وئيدة تصنّعها بها الهدوء وكأنهما لم يفعلا شيئاً..

وبدون تردد قصدا وكالعادة بيت خالة علي بدوي، حيث يستريحان بدون قلق، فالبيت مستور وبعيد عن الأنظار، وخالته بعيدة عن الشبهة فتستطيع أن تتحرك وتأتيه بأخبار تهمه من داخل القرية..

وما إن قرع الباب حتى أطلت ابنة خالته التي أصبحت جزءاً من المجموعة وكأنها على موعد مع النسر العائد إلى عشه، فسارعت إلى استلام مسدسه منه والمبادرة إلى وضعه فوق الخزانة الخشبية، ثم أخذت تعد الشاي فقد كان يحب احتساءه مع علي سليمان الذي كان يدور بإبرة الراديو يريد أن يسمع خبراً...  


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net