متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
عبد الله فنيش
الكتاب : قصص الأحرار ج4    |    القسم : مكتبة القُصص و الروايات

عبد الله فنيش

 

      في أول أيام الاحتلال، ولم تكن النيران قد اشتعلت بين أهل الجنوب واليهود، فكانوا يتساهلون في الإجراءات الأمنية، إذ لم تكن حرب الشعب والمقاومة قد التهبت ضدهم بعد، كان ملعب البلدة يشهد لعبة ليست عادية عند الجنوبيين، فعدد من أبنائها يلعب كرة القدم مع الجنود الإسرائيليين!!

      وفجأة توقفت دراجة نارية، وترجل عنها شاب طويل القامة، عريض ما بين المنكبين، صبوح الوجه، إلا أن الغضب كان بادياً على وجهه ويكاد ينقدح شرراً من عينيه، فجمدت أوصال اللاعبين وتيبسوا في أمكنتهم، ثم توقف الجنود اليهود، وأخذ الجميع ينظرون إلى هذا الشاب الذي توجه مباشرة نحو الكرة ثم التقطها بيده بصمت واستدار خارجاً من الملعب، ولم ينبس أحد من أبناء البلدة ببنت شفة، لكن أحد الجنود اليهود اعترض قائلاً:

-      لماذا تأخذ الكرة؟

فحدجه عبد الله فنيش بنظرة، ولكنه لم يجبه بل التفت نحو اللاعبين الجنوبيين:

-      نحن لا نلعب مع اليهود! مفهوم؟

ولكن الإسرائيلي أجابه:

-      ولكنكم تلعبون مع الدوليين!

لم يلتفت عبد الله إليه أيضاً، بل استمر في السير نحو الدراجة، ثم قال لأبناء بلدته:

-      الدوليون ليسوا يهوداً!

زأرت دراجته النارية مغادرة وقد تطايرت الحصى تحت دولابها الخلفي، فلم يكن يجرؤ شخص مهما بلغت قوته الجسدية على الوقوف في وجه عبد الله فنيش، الحائز على الحزام الأسود في الكاراتيه وصاحب البنية الضخمة والقوية والقبضة الفولاذية، والذي ذاق "مزحاته" منهم كان يعلم تماماً ما هو معنى "جده" فقد كانت تكفي ضغطة واحدة من يده على ذراع أو رقبة من يواجهه حتى يحسم الأمر..

      مضت أيام على هذه الحادثة.. ولكن اللعبة تكررت، وفجأة وصل عبد الله فنيش للمرة الثانية، وكان أبناء البلدة ينتظرون شيئاً منه أكبر من المرة الأولى، إلا أنهم فاجأه بقوله:

-      أريد أن ألعب معكم!!

انقلبت سحنتهم من الوجود والخوف إلى الابتسام والترحيب بسرور، ولم يتردد بعضهم في إبداء فرحه فإن عبد الله فنيش لاعب كرة ممتاز أيضاً وسوف يحسم المباراة لصالحهم، ولم يكن اليهود على علم بهذا الرجل الذي كان موقفه سلبياً جداً منذ أيام.

      وابتدأت المباراة ولكن روحاً غير عادية أخذت تسيطر عليها، فقد نال اليهود الكثير من ضربات الكتف التي "بطحت" بعضهم أرضاً على وجهه، كما نال بعضهم الآخر ركلات على "عظام" سيقانهم، لم يكن يخفى عليهم "العمدية" الظاهر فيها، فارتفع صراخهم بالاحتجاج، ولكن عبد الله فنيش لم يكن يبالي، بل كان أحياناً، وخارجاً عن أصول اللعب، يلكم أحدهم على أنفه إذا تجرأ واقترب منه..

      وفهم الجنود الذين نالهم جميعاً منه دفشات ورفسات مؤلمة مراده كما فهم الجمهور المتفرج وأخذت تسري همهمات عند الجميع، ثم أوقف اليهود المباراة وهم يحتجون على هذا اللاعب "الذي لا يتمتع بروح رياضية" وخرجوا من الملعب وقد نال كل واحد منهم نصيبه.. وخرج لاعبو معروب وقد تعلموا أصولاً جديدة للعبة مع أعداء الإنسانية..

      في أيلول 84 انضم عبد الله فنيش إلى المجموعة المتمركزة في معركة، وابتدأ عمله في مثلث الحديد بعد أن انكشف أمره في منطقة بنت جبيل خلال عملية قتل الضابط الإسرائيلي (أبو رمزي)، فقد تعرف عليه العملاء ووزعت المخابرات الإسرائيلية اسمه على جميع الحواجز، ودوهم بيته في معروب عدة مرات، وكان العملاء يراقبون بيته ليلاً نهاراً، خصوصاً بعد أن نشط في مثلث الحديد وانتقل إلى معركة..

      وفي المرة الأخيرة، ولم تمض دقائق على وصوله إلى بيته في معروب في سيارته المرسيدس الكحلية، حتى وصلت عدة سيارات عسكرية إسرائيلية، مما يدل على دقة المراقبة واستنفارها، وأسرع الجنود يصعدون الدرج ويداهمون البيت فيما اجتمع الناس في الخارج ليشاهدوا اعتقال عبد الله فنيش قطعاً هذه المرة، فقد دخل إلى البيت منذ دقائق ولم يخرج وها هي سيارته شاهد أمام الباب!!

      وعلا الصراخ داخل البيت، واختلطت أصوات الجنود بأصوات أهله، فكان صوت أمه يهدر في تقريع الجنود اليهود وتوبيخهم، كوقفة زينب أمام يزيد!! وانتظر الناس، ولكن الجنود خرجوا بعد ربع ساعة بدون عبد الله فنيش!!

      وفوجئ الجيران الذين تجمعوا أكثر مما فوجئ الجنود اليهود، فإن بعضهم قد رأى عبد الله فنيش يدخل إلى البيت بأم عينه قبل دقائق، وها هي سيارته تقف أمام البيت، ولكن الصهاينة فتشوا البيت وبعثروا محتوياته رغم مواجهة والدته لهم إلا أنهم لم يعثروا عليه فانصرفوا غير مصدقين.

      حينما وصل إلى البيت استقبلته والدته بلهفة، فقد كانت غيبته الأخيرة عنها طويلة، وبادرته قائلة:

-      لا شك أنك ستنام في البيت هذه الليلة!

-      مستحيل!

-      لماذا؟

-      لأن الجنود اليهود سوف يأتون الليلة قطعاً إلى بيتنا ويداهمونه.

ولم يكد ينهي كلامه حتى ارتفع صوت وقع أقدام الجنود على الدرج، كانوا خمسة وعشرين جندياً، أخذ قائدهم يركل الباب بقدمه بعنف فيتردد الصدى في أرجاء المنزل ويهتز البيت القديم المترنح بكامله من شدة الضربات، فسارعت أمه نحو الباب وقد سهت عن عبد الله، لينكسر الباب تحت وطأة الضغط، ويندفع الجنود إلى داخل المنزل وقد ملأوا الممرات.

-      أين الشباب؟ أين يختبئون؟

-      أي شباب؟ من تريدون؟

كانت رابطة الجأش، قوية، صارمة لم ترتجف ولم تخف، بينما كانوا هم المذعورين، فقال لها الضابط وقد شهر هو وجنوده سلاحهم باتجاه غرفة داخلية..

-      افتحي الباب.

فتقدمت وفتحت الباب ووقفت عنده تحدّق فيهم.

-      اضيئي النور.

فدخلت وأضاءت النور ثم وقفت وهي تنظر إليهم، أخذوا يقتحمون الغرفة وهم يرتجفون ويصرخون شاهرين أسلحتهم.

-      ارفع إيدك.

ولم يجدوا أحداً، فجن جنونهم وأخذوا يفتحون خزائن الثياب ويبعثرونها فوجدوا ثياباً رجالية.

-      لمن هذه الثياب؟

-      لأولادي.

-      أين هم؟

-      في السعودية.

-      لمن هذه الصورة؟

-      هذه صورة محمد.

-      مين محمد؟

-      محمد فنيش

-      أين محمد فنيش؟ (يقصدون النائب الحالي في البرلمان اللبناني)

-      في ألمانيا (تقصد ابنها الموجود حينئذ في ألمانيا فعلاً)

-      مستحيل! أنت تكذبين (ونظروا إلى بعضهم باستغراب)

-      فشرت.. أنا لا أكذب! أنا أصدق منك!

ومضت نصف ساعة على مغادرة اليهود للمنزل.. خرج بعدها عبد الله فنيش وهو يضحك، فقد كان جذع شجرة السرو الكبيرة يمر أمام النافذة وكانت أغصانها كثيفة ومتشابكة، وبمجرد سماعه لوقع أقدام اليهود على السلم دلف من النافذة إلى السروة واختفى بعد دقيقة بين أغصانها، فكان اليهودي يطل من النافذة ولا يخطر بباله أن يرفع بصره إلى أعلى، وحتى لو رفع بصره!! فقد لا يراه!!

وعرفته منطقة صور، وكل قرى مثلث الحديد، بشوارع قراها وبلداتها وبروابيها وتلالها، كما عرفته بلدة معركة، مطارداً للعملاء من الدرجة الأولى، على دراجته النارية التي كانت تطير به أحياناً وتقفز في الطرقات وتتسلق القادوميات الضيقة وبين أشجار الزيتون، من ربعة إلى ربعة، فيرمي طلقات محدودة من مسدسه فيردي عميلاً، أو يقذف منجزرة بقنبلة فتصليه الثانية بوابل من النيران، ولا تكاد رصاصات اليهود الغاضبة تدركه..

وبمجرد قدومه إلى معركة تعرّف عليه الشباب بالطريقة التي تناسبه، فكان كل واحد منهم ينال منه "قتلة" خاصة، وخصوصاً من يحاول أن يجادله عبثاً أو يرتكب تقصيراً في عمله، فإنه كان سرعان ما يمسكه من رقبته من الخلف ثم يرفعه عن الأرض، أو يرميه أرضاً ويجلس عليه بينما يرتفع صراخ ذلك المسكين مختلطاً بضحكاته الممزوجة بالألم وبضحكات الآخرين، وإذا ما فكر أحد بمساعدة صاحبه ليتخلص من عبد الله فنيش فإنه يجد نفسه معه، وغالباً ما يكونون ثلاثة أو أربعة يأكلون منه "القتلة" دفعة واحدة.. وكان كل قادم من رجال المقاومة إلى معركة لابد أن يتلقّى الترحيب الأولي لقدومه "تحية" خاصة من عبد الله فنيش..

في الوقت نفسه، وعلى الطريق الممتدة من صور جنوباً باتجاه البياضة نشط علي بدوي وعلي سليمان ومن انضم إليهما من رجال المقاومة في توجيه ضربات مختلفة للعدو ولدورياته، وكانت دراجتهما النارية تزأر على طرقات هذه الجهة سواء منها المعبدة أم تلك التي بين البساتين، حتى غدا اسم هذين المجاهدين على كل شفة ولسان..

وعلى مفترق دير قانون رأس العين، وكان معهم هذه المرة عادل الزين وآخرون، وبعد تفجير العبوة بالملاّلة، وخلال الاشتباك مع الملالة الثانية في رمايات غزيرة النيران انهار أحدهم فجأة ووقع على الأرض، ولم تعد تقوى قدماه على حمله.

كان الموقف صعباً وحرجاً، ولابد من مبادرة تنقذه، فالعدو يسيطر على جو المعركة بنيران غزيرة ودعمه قد يتدخل خلال دقائق، وإذا بعلي بدوي، وبينما كان علي سليمان وعادل الزين والآخرون ينسحبون عبر البساتين باتجاهات مختلفة، ورغم ضآلة حجمه وهزال جسمه، يرفع رفيقه الأثقل منه وزناً على الأرض، ويحمله على ظهره، وينسحب به مسرعاً بين أشجار الليمون، وقد سيطرت على جوانحه وجوارحه إرادة إلهية وعزم لا يلين، واستمر في سيره حثيثاً حتى وصل به إلى بلدة دير قانون رأس العين.

مكث علي في تلك القرية ساعات، ثم عاد بعد الظهر أدراجه سالكاً الطريق الساحلي ليتفاجأ بحاجز إسرائيلي، فقد استنفرت إسرائيل حواجزها علها تستدرك شيئاً من خسائرها، وكان وضع الجنود متوتراً من آثار عملية الصباح ضدهم، فلم يستطع الفرار بدراجته النارية، فأوقفوه، ولم يتمكن هذه المرة من إقناعهم بعدم وجود علاقة له بما جرى في صبيحة هذا اليوم، وأصروا على توقيفه، ولكنه أصر على أنه عامل بناء وأنه استعار هذه الدراجة، وعندما عزموا على المسير وعلى اصطحابه معهم توسّل إليهم أن يأخذ دراجته النارية معه لأنها ليست له ويخشى إذا تركها أن تُسرق، فوافقوا وطلبوا منه ركوبها وأن يسير بها على مهل بين الآليتين.

سار موكب غريب على الطريق الساحل باتجاه صور، مجنزرة إسرائيلية تسير خلفها مباشرة دراجة نارية، وخلف الدراجة جيب وخلفه مجنزرة أخرى، ولا يفصل بين الآليتين أكثر من أمتار قليلة، فقد حشروه بينهما، وأجبروه بذلك على أن يحافظ على بطء سرعته استجابة للجنود الذين كانوا يصوبون بنادقهم ورشاشاتهم المتوسطة، كانوا حريصين على عدم ترك فرصة له للهرب، وكانت عيونهم وفوهات بنادقهم مسلطة عليه، ولكنه، وهو ابن المنطقة والعارف بطرقاتهم وقادومياتها، كان يتحين الفرصة للفرار، فانتظر حتى وصل إلى مفترق طريق ضيق يسلك بين البساتين ولا يسمح إلا لسير الدراجة النارية عليه ولا يصلح لمرور أكثر منها كما أنه يصل في آخره إلى باتوله..

وهناك (قرص) دراجته تسعين درجة إلى اليمين (وكعبها) فقفزت به على دولابها الخلفي في حركة بهلوانية باتجاه البستان، وخلال لحظات ذا علي بدوي بين أشجار الليمون فيما كان الرصاص الغزير ينعفها على غير هدى، بينما كان يصل إلى بيت خالته حيث ينتظره قلب كبير، كان يعد الساعات في كل يوم يغيب عنه علي بدوي، فيموت بدلاً منه آلاف المرات كل يوم، فإذا وصل بعث من جديد!!

***

تميز صيف وخريف 1984 بعدة حوادث تركت أثراً عند الرجال، فقد استشهد عبد الحسن عزالدين رجل العبوات واليد اليمنى للشيخ محمد زيدان ورفيق دربه واستشهد محمد زين رفيقهما، واعتقل رضا حريري على طريق وادي جيلو، وجاء عبد الله فنيش إلى معركة فأضفى جواً من المرح والحبور على حياة الرجال الغرباء البعيدين عن أهلهم كما أضفى في الوقت نفسه عبقاً من الروحانية بترتيله للقرآن وقراءته للدعاء مما كان يغمر غربة الشباب بالرحمانية.. وامتدت روحانيته وإيمانه المطلق بالغيب ليشمل حتى قضايا القتال والسلاح.

كانت سيارته تنهب الطريق بين الشهابية وسلعا ثم تتوقف فجأة بعد أن أشار إليها ركاب سيارة كانت آتية من الجهة المقابلة..

-      هذا هو الشيخ عبد الله فنيش .. اسأله!!

-      سلامٌ عليكم.

-  وعليكم السلام، أجاب عدل الله وقد أوقف سيارته إلى جانب السيارة القادمة بحيث يصبح وجهاً لوجه مع سائقها.. وكانا من رجال المقاومة المعروفين عنده..

-      نحتاج إلى رشيشين وذخيرة وقاف ب 7 وقذائف هل نستطيع استعارتها منكم؟

-      هل تريدون استلامها الآن؟

-      الآن؟ وضحكا معاً، واستطردا:

-      هل هي معك هنا؟ من أين ستأتي بها؟

وحدجهما بنظرة حادة..

-      الظاهر أنكما لم تأكلا من "قتلة" بعد!!

-      نحنا بأمرك .. دخيل عرضك.. قتلة اليهود ولا قتلتك!!

-      حسناً! هل تريا تلك الكومة من الحطب تحت تلك الشجرة! وأشار إلى تلة قريبة..

-      صحيح! أجاب أحدهما

-  إذهبا وخذا رشيشين وذخيرتهما وقاذف وثلاث قذائف واتركا الباقي وأرجعا كومة الحطب كما هي

قال أحدهما وقد فغر فاه من الدهشة:

-      كيف تترك الأسلحة هكذا وفي البرية؟؟

-  ألم أقل لك إنك لم تأكل مني قتلة بعد؟ نحن نكتفي بأن نصلي على محمد وآل محمد عليها ثلاث مرات ونقرأ آية الكرسى والله تعالى أقوى من أمريكا وإسرائيل..

كان عبد الله فنيش مدرسة في الإيمان المقاتل، خرّجت المجاهدين في معركة طوال النصف الثاني من سنة 1984 الذي تميّز باندفاع العشرات من الشباب وبجرأة إلى مواجهة العدو وتميّز بالعلاقة الممتازة التي أخذت تطرد شيئاً فشيئاً بين خليل جرادي ومحمد سعد من جهة وشباب المقاومة الإسلامية من جهة أخرى، وقد صرح خليل جرادي للصحافة في أحد أيام المواجهة بين إسرائيل ومعركة (إن بلدة معركة ستين مقاتلاً ليسوا من معركة وإنما جاؤوا من أجزاء مختلفة من لبنان) لقد تحولت معركة إلى قلعة لرجال المقاومة الإسلامية.

زارهم خليل جرادي وكان معجباً بهم، ثم طلب منهم إشراكه شخصياً في عملياتهم العسكرية، فاعتذروا منه، ولكنهم في جلسة حضرها رجال الحرس الثوري الإيراني الذين استطاعوا التسلل والوصول إلى معركة رغم السيطرة الإسرائيلية فاجتمعوا به في بيته في معركة طلبوا منه أن يؤمن استمرار العلاقة الطيبة بينهم وبين تنظيم أمل في معركة وأن يرعى التغطية الشعبية لهم من أجل حمايتهم إذا ما داهمت إسرائيل البلدة، وكان مطاعاً نافذ الكلمة سواء عند أعضاء تنظيم أمل أم عند عامة الجماهير في معركة، وفي ذلك الاجتماع قال خليل جرادي لوفد الحرس:

-      (سوف يكون بيتي مركزاً لحرس الثورة الإسلامية بعد تحرير جبل عالم)

ولم يتوقف التعاون بين خليل جرادي ورجال المقاومة الإسلامية عند حدود تأمين التغطية والحماية الشعبية لهم، بل تعداه إلى محاولة تنسيق هجمات تقوم بها مجموعات من حركة أمل مع رجال من المقاومة الإسلامية، وقد تحقق ذلك، فقد قامت مجموعة مشتركة، بنصب كمين على طريق البازورية لدورية إسرائيلية مؤلفة من جيبي ويليس وكاميكار ورمى الشهيد حيد خليل من حركة أمل الجيب الأمامي بقذيفة آر بي جي وأطلق بقية أفراد المجموعة النار بغزارة على بقية القافلة واعترفت إسرائيل بثلاثة جرحى.

وتميز النصف الثاني لسنة 1984 باستحداث العدو الإسرائيلي لعشرات المواقع الثابتة على التلال ومفارق الطرقات مما حول المنطقة إلى ساحة للتدريب بالذخيرة الحية.. فكان شباب قرى منطقة صور من جميع التنظيمات يمارسون عليها الهجمات المتكررة بالأسلحة المختلفة، حتى الذي كان لم يكن قد أطلق في حياته طلقة نار واحدة كان يخرج مع الشباب ليقصف هذه المواقع ويتبادل معها النار في اشتباكات كانت تستمر أحياناً حتى الصباح.. وعلى وهج الحديد والنار تخرّج جيل من الشباب المقاوم وأصبح لكل بيت ضلع في المقاومة، مما أشعل الغضب الجماهيري كل يوم وابتدأ يوم هزيمة إسرائيل وانسحابها يقترب تدريجياً.

وكان صيف وخريف 84 حاراً على طرق مثلث الحديد فقد نفذت على الطريق الشمالي أربعة هجمات ونصب كمينان وتم تفجير ثلاث عبوات، ونفذ على طريق معركة صور هجومان وكمينان وتم تفجير عبوتين، أما الطريق الجنوبي للمثلث فقد نفذ عليه ستة كمائن وأربعة هجمات، وتم تفجير ثلاث عبوات، ودخلت الأسلحة الثقيلة على الخط وابتدأ استعمال المدفعية والصواريخ، وكان عبد الله فنيش بمدفعه الهاون ستين يقصف موقع مثلث دير قانون النهر تقريباً كل ليلة من الوادي الواقع بين طورا ودير قانون، وقصف صالح حرب، الذي كان ينقل صواريخ الكاتيوشا على كتفه لوحده من معركة إلى وادي عين شرغيت، موقع وادي جيلو بالصواريخ، وهوجمت المواقع الثابتة بقذائف الآر بي جي والرشاشات المتوسطة. أما الطريق الغربي الساحلي من مفرق رأس العين إلى جسر القاسمية فقد شن رجال المقاومة عليه سبع هجمات ونصبوا ثلاثة كمائن وزرعوا عبوتين تم تفجيرهما، وفي داخل مدينة صور هوجمت قيادة العدو بالقنابل مرتين وفجرت عبوة وضرب أحد المواقع بقذاف الآر بي جي 7 وقد كانت النتيجة العامة لكل هذه العمليات تدمير أو إعطاب عشرين آلية بين مجنزرة وجيب وشاحنة وتحقيق أكثر من ستين إصابة في أفراد العدو بين قتيل وجريح.. وكانت معظم العمليات تقع في وصلات الطرق القريبة من معركة مما دفع العدو لمعاودة محاولة الضغط عليها لتأديبها، فإن القيام بنحو ستين عملاً عسكرياً في خمسة أشهر أي بمعدل اثني عشر عملاً في الشهر، بالإضافة إلى حجم بعض هذه الأعمال ونوعيتها في منطقة ضيقة، هذا عدا عن الهجمات العامة بمدفعية الهاون وبقذائف الآربي جي والرشاشات المتوسطة والتي كانت تقع كل ليلة تقريباً على المواقع الثابتة والتي خرجت عن حدّ الإحصاء، كل ذلك دفع العدو الإسرائيلي إلى الانتقام من معركة مجدداً، فابتدأت علامات المداهمة الكبرى التي وقعت في 13 كانون الأول 84 تظهر في الأفق، وابتدأ حشد العدو لآلياته وجنوده، كما ابتدأ في الجهة المقابلة استنفار واسع في صفوف أهال البلدة، وارتفعت حدة حرارة المواجهة، وجهّز الأهالي الدواليب المستعملة والحجارة وهياكل السيارات، واستعد رجال المقاومة للاختفاء في المخابئ التي أُعدت، بينما تقدمت إلى الأمام قيادة محمد سعد وخليل جرادي للحركة الشعبية من أجل مواجهة المحتل وحماية المقاومين بصفوف الشعب..

وهكذا أخذت معركة تعزف سيمفونية الجهاد والمقاومة كراً وفراً، فإذا ما تراجع العدو عنها وانسحب وغادرها خرج المقاومون من مخابئهم يطاردونه ويقتلونه وينغصون عليه أيامه، فيزرعون العبوات ويشنون الهجمات وينصبون له الكمائن.. وإذا ما تألم من ضرباتهم فقام بالهجوم المعاكس على معركة ومداهمتها تراجع المقاومون إلى مخابئهم وتقدم قادة الشعب ينزلونه إلى الشارع ويتصدون به لهجوم العدو ويحمون به وبصدوره العارية رجال المقاومة..

في الشهر الأخير من سنة 1984 اشتد الضغط الأمني والإرهابي الصهيوني على مدينة صور وكانت الحواجز الثابتة والمفاجئة تقفل شوارع المدينة وتشل الحركة فيها بينما كانت المداهمات على قدم وساق مما ضيّق على أنفاس الناس والمقاومين في المدينة.. فطلب محمد سعد وخليل جرادي لقاء مع رجال المقاومة الإسلامية ي معركة حيث طرحوا فيه أجواء حصار مدينة صور واقترحوا عليهم تكثيف النشاط خارجها وتصعيد العمل العسكري لتخفيف الضغط عنها..

في اليوم التالي وكان الثاني عشر من كانون الأول من سنة 1984 تحركت مجموعات المقاومة وقامت بمجموعة من العمليات كان أقواها وأشدها وطأة على اليهود كمين طريق طيردبا..

ففي ساعات الصباح الأولى انتشرت بين أشجار الليمون مجموعة مؤلفة من الشيخ محمد زيدان وصالح حرب وخضر الجوني وعلي بدوي وعلي سليمان، وكانت دورية إسرائيلية قد اعتادت التوقف عند بركة لري البساتين على طريق طيردبا صور، وأصر صالح هذه المرة على رؤية اليهود وهم يُقتلون عن قرب.

وفعلاً، لم تخب استطلاعات الشباب كثيراً فها هي المجنزرات تطل عند التاسعة صباحاً، وترجل أفرادها وأخذوا يعبثون بالماء وقد تخلوا عن كل أسباب الحذر والحيطة، ومنهم من ركن سلاحه إلى حائط البركة ومنهم من كان يدخن، وصالح على بعد أمتار بدون أن يبالي باحتمالات الإصابة، فقد كان مصمماً على رؤيتهم مضرجين، فربض في مكان قريب جداً منهم.

توقف المجنزرتان متباعدتين، واحدة أمام البركة والأخرى خلفها وكانت المسافة بينهما ثلاثين متراً مما سمح للشباب بتسليط النار على مجموعة الجنود اللذين كانوا حول البركة. ولم يكن هناك مجال في هذا الكمين لتطبيق خطة الاختفاء بعيداً ثم التقدم إلى موقع قريب حين الهجوم، بل موّه الشباب أنفسهم بالتراب الأحمر الموحل وبأغصان الليمون حتى بدوا وكأنهم شجيرات زرعت هنا منذ أمد بعيد.. فطبقوا دروس التمويه.. وهم ملح الأرض وترابها وعبقها.. فاحتضنتهم بأشجارها وأوراقها واختلطت ألوانهم بألوانها وأنفاسهم بأنفاسها.. وعندما وصل أعداء الأرض كان بعضهم قريباً منه على أمتار قليلة ولكنه لم يميزه عن الأرض والشجر..

وفي اللحظة المناسبة وكانت الأيدي قد تعبت من الشد على العتلات بادر صالح حرب، ومن على بعد أمتار إلى إلقاء قنبلته اليدوية صارخاً الله أكبر، أعقبها فوراً صليات طويلة من خضر الجوني ومحمد زيدان بينما كان علي بدوي وعلي سليمان يرميان بغزارة على راميي الرشاش المتوسط في المجنزرتين اللذين انبطحا داخلها من شدة الخوف وهما في حالة ذهول تام..

وقبل أن تصدر من الغزاة المحتلين طلقة واحدة تساقط ستة من الجنود وتهاووا حول البركة وهم يصرخون ويتخبطون بدمائهم بينما انزوى رفاقهم أرضاً بلا حراك، وفيما كان الرجال يبتعدون كلّ في اتجاه كان علي سليمان وعلي بدوي يتعاملان مع المجنزرتين ويتبادلان معها النيران ثم ينسحبان في طريق خاص جلبا به انتباه العدو فكان بقية الرجال يتسللون مغادرين منطقة الاشتباك..

إلا صالح حرب، فقد أصر على أن يرى الجنود الصهاينة عن قرب وهم مضرجون بدمائهم، وقد تناثروا على الأرض، هذا يحاول رفع رأسه وهذا يصرخ وثالث يحاول الاستعانة بجدار البركة من أجل النهوض لكن الحياة تخونه فينزلق إلى الأرض تاركاً آثار كفيه المخضبين بالدماء وقد انطبعت على الجدار، ثم هدرت مروحية في الجو فحبس صالح أنفاسه وانتابه قلق من انكشاف أمره فسحب قنبلة ونزع حلقتها وضغط على العتلة بأصابعها استعداداً لرميها، إلا أن أحداً منهم لم يقف ويرفع رأسه، ثم جاءت مروحية ثانية وابتدأت عملية إخلاء الخسائر وصالح جامد في مكانه لا يتحرك والقنبلة في يده يضغط عليها بكل قوة.

بعد ساعات على إلى معركة وناله ما ناله من التعب الشديد على تأخره، وهو ما يزال يضغط على عتلة القنبلة بعد أن أضاع الحلقة، ولم يحاول البحث كثيراً عنها إذ لم يكن الوقت مناسباً أبداً لذلك، فعاد وهو محتار فيما يفعله بالقنبلة، فربطها بشريط ووضعها في جيبه، فكانت تثير الرعب كلما جلس في مكان أو بدل ثيابه أو استراح في مكان ثم أخرجها أمام الجالسين، أو ناولها لأحد الإخوان ممازحاً

-      (خليلي هالقنبلة معك شوي!)

في هذا اليوم نفسه، كانت الدراجة الناري تزأر على طريق صور الدولية عائدة من صور براكبيها عبد الله فنيش وفارس حاول بعد أن قذفا جنوداً إسرائيليين في المرفأ بقنبلة يدوية، ولكن فارس حاوي كان هو الذي يقودها هذه المرة وقد جلس خلفه عبد الله فنيش..

      وعلى مفترق طيردبا انعطف فارس بحدة باتجاه معركة ولم يخفف السرعة فاختل توازن الدراجة فحاول إعادتها إلى استقامتها فلم يفلح فأفلت المقود من يده وتدحرج عن متنها فحاول عبد الله فنيش تدارك السقطة بالقفز في الهوى متكئاً على قدمه اليمنى فنجح في ذلك ولكنه صرخ من شدة الألم حينما استقر جانباً واضعاً يده على مشط رجله، وفيما كانت الدراجة تستقر على أحد جانبيها كان فارس حاوي يسرع إلى الاطمئنان على صاحبه.

-      خير! هل أصابك شيء؟

-      أعتقد أن قدمي كسرت..

-      سامحني يا أخ عبد الله.. الحق عليّ كان يجب أن أخفف السرعة.

نظر إليه عبد الله نظرة عتب وقال له ممازحاً:

-      الظاهر أنه بيلزمك قتلة ثانية مني! ولا يهمك يا رجل كلها قدم وانكسرت وبكرة بتطيب.

قام متكئاً على كتف صاحبه ولم تمض دقائق حتى تورمت قدمه ولم يعد قادراً على المشي، فتوجه فارس إلى طيردبا وأخبر الأصدقاء فيها فجاء أحدهم بسيارته ونقل عبد الله إلى المستشفى الحكومي في البص ليعود في اليوم نفسه إلى معركة بجبيرة في قدمه منعته من الحركة والمشي، وبقرار من قيادة المقاومة قضى بضرورة مغادرته معركة فوراً، والابتعاد عن النشاط حتى يتعافى ويرتاح.

      في تلك الليلة، وعلى ضوء مصباح الكيروسين الذي كانت شعلته تراقص النسائم المتسللة إلى داخل الزجاجة.. تمدد عبد الله فنيش، وقد جلس إلى جانبه فارس حاوي يردد بصره بين وجه عبد الله المتغضن وأشياء أخرى لا ينظر إليها بل كان يحاول الهرب من عيون عبد الله الذي بادره وكأنه فهم في أي وادي سحيق سقط فارس:


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net