متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
فارس حاوي (ساجد)
الكتاب : قصص الأحرار ج4    |    القسم : مكتبة القُصص و الروايات

فارس حاوي (ساجد)

 

      دخلا إلى البيت منهكين وارتميا عند المدخل وقد استندا إلى الحائط وظهرت عليهما إمارات التعب، فجاءت أمهما مسرعة وجثت على ركبتيها أمامهما وأخذت تمسح وجهيهما بكفيها.

-      خير يا ماما، ما بكما؟

ورمقا بعضهما بطرفي أعينهما ثم أطرقا أرضاً.

-      جئنا مشياً..

فشهقت وقالت:

-      يا ربي، مشياً؟

ولم يجيبا، ولم يرفعا رأسيهما، فأردفت بصوت أعلى وقد تغيرت نبرتها:

-  من ساحة البرج إلى حي ماضي مشياً على الأقدام؟ لماذا؟ ألم يعطكما والدكما أجرة الطريق؟

وأجاب فارس:

-      نعم، ولكن التقينا متسولاً فأعطيناه نصف الليرة! وجئنا مشياً..

فصمتت وأسدلت يديها، وأخذت تحدّق فيهما، هل تقول لهما (لا تعطيا فقيراً مالاً تحتاجانه؟) هل تشجعهما على الاستمرار في هذا السلوك؟ ولكنها قطعت حبل أفكارها وبادرتهما..

-      هيا انهضا والبسا ثياب النوم واغسلا أيديكما فقد أعددت العشاء..

ونهضا يكملان حديثاً كانا قد بدآه قبل الوصول إلى البيت...

تحوّل حي ماضي إلى جبهة حرب، فقد خرّبت مدفعية ميشيل عون والقوات اللبنانية الطرقات والجدران وقطعت أسلاك الكهرباء وفجرت أنابيب المياه، وسيطر قنّاصتهم على مداخل الطرق والأزقة والنوافذ والأبواب، فأقفرت الشوارع من المارة وأخذ سكان حي ماضي يغادرونه تدريجياً، ولم يبق فيه إلا الأسر الفقيرة التي لم يكن لها غير بيتها فيه مأوى، أو تلك التي اضطرت للبقاء إذ حمل أولادها السلاح دفاعاً عن المناطق الإسلامية والوطنية، فشكلوا الجيش الذي دافع عن محاول بيروت وحماها وبنى متاريسها وحفر خنادقها واستشهد أفراده في شوارعها واحداً تلو الآخر لكي تبقى عربية إسلامية..

      من هؤلاء كان فارس حاوي (ساجد)، الذي ارتبط اسمه بمحور الواحد والسبعين في حي ماضي ولم يتجاوز عمره الستة عشر ربيعاً واختلطت حبات عرق جبينه مع حبات رمل المتاريس وروت ضربة كل فأس في الخنادق التي ربطت بين تلك المتاريس..

      كبر، يخدم كل بيت وكل عائلة اضطرت للبقاء في محور حي ماضي، فكان نجّاراً وحدّاداً وسنكرياً يوصل الكهرباء التي تنقطع بسبب القصف تارة، وأنابيب المياه إذا ما أصابتها شظية ثقبتها تارة أخرى، وعندما يشتد القصف ويصعب عليهم الخروج من منازلهم كان (ساجد) يتكفّل بإيصال ربطات الخبز مع أزيز رصاص القنص وانفجارات القذائف.. فزرع روحه وبسمته في كل بيت.. وفي المتاريس..

      وفي الليل، كان يذرع محور الواحد والسبعين من متراس إلى آخر، حراسة، واستطلاعاً، ورداً على مصادر النيران إذا اضطر الأمر لذلك، فإذا هدأت العيون ونامت ولم يبق إلا وقع خطوات حرّاس المحور كان (ساجد) طاهراً عابداً لا تسمع له حساً، مع أنه كان ما يزال في مقتبل عمره..

      في محور الواحد والسبعين وبينما كانت مدفعية ميشيل عون تدك حي ماضي، تفح شوارعه وتزرع لوناً أسوداً قاتماً، وتثقب جدران بيوته بطمع أن لا تُسكن بعد ذلك إلى الأبد، وفيما كان فارس حاوي وصالح حرب رابضين داخل المتراس قفز بينهما شاب وتبعه آخر ثم دخل وراءهما محمد حدرج. كانوا يلهثون، ولكن لهاث محمد حدرج لم يمنع فارس حاوي وصالح حرب من احتضانه وتقبيل وجناته كما لم يمنعه من تمرير قبلة اختلطت بها حبات العرق والأنفاس المتلاحقة فقد كان محمد حدرج وأخوه يوسف من أبناء حي ماضي أيضاً..

      لقد كان ذلك اليوم هو يوم عودة محمد حدرج من معسكر جنتا مع رفاقه الذين لم يتأخر كثيراً في تقديمهم لفارس حاوي وصالح حرب: علي بدوي وعلي سليمان..

      وهناك في محور الواحد والسبعين اشترك علي بدوي وعلي سليمان وفارس حاوي وصالح حرب ومحمد حدرج مع حسن حجازي (الدحنون) في أول عمل عسكري مشترك لهم ضد مواقع عملاء إسرائيل في محور مار مخايل فتعمّدت دورتهم بالنار، وسرت في عروقهم نسائم حبٌ كتب الله لها أن تبقى إلى الأبد..

      وعندما احتشد المختبئون في الحفرة السرية فراراً من حملة المداهمة الإسرائيلية لبلدة معركة، أخذ المصباح الكهربائي لأحدهم يدور بين الوجوه في العتمة يريد أن يتعرف على شركائه في الحفرة.. فاستقر الضوء على وجه أنيس، عليه مسحة طفولة، وقابل (ساجد) ضوء المصباح بابتسامة محببة، تلا ذلك مصافحة بين ساجد وصاحب المصباح.

      لقد أصحبت معركة بالنسبة إليه كحي ماضي وكمحور الواحد والسبعين، بعد أن انتقل إليها تنفيذاً لأوامر قيادة المقاومة الإسلامية حاملاً على كتفه كاميرا الفيديو، وهناك في معركة، التحق برفاقه في مجموعات المقاومة، فقد كان دوره تصوير العمليات وتسجيل خسائر العدو بالصوت والصورة.

      لقد قررت قيادة المقاومة دخول عصر التوثيق وإثبات خسائر العدو وهزائمه وانتصارات رجال المقاومة وجرأتهم بالصوت والصورة. فقد كانت الأمة محتاجة إلى ذلك لكي تصدّق ما تعلنه بلاغات المقاومة وبياناتها (ولكي ترتفع معنوياتها، بعد أن مرضت دهراً بداء الكذب وتزوير الأخبار وتضخيم خسائر العدو والمبالغة في أخبار العمليات، وأخذ فارس حاوي (ساجد) يرافق المجموعات ويصوّر، وعندما يعود إلى معركة كان يتدثّر بالليل في مسجدها فينفرد فيه إلى خالقه بعد أن ينصرف المصلون، وما إن ينسحب آخر جندي صهيوني من معركة، ويخرج الرجال من مخابئهم يدب النشاط في أوصالهم وتتحرك مجموعاتهم لتنفذ ضرب دوريات العدو على الطرق الإستراتيجية في منطقة صور.

      كمنت مجموعة منهم كان فيها محمد زيدان وعلي سليمان والمصور فارس حاوي، وكانوا قد حاولوا ثلاث مرات ضرب الدورية فتعترضهم عقبات فيعودون إلى معركة بدون نتيجة، وفي المرة الثالثة جاءت الدورية وكانت كلها من المشاة فانتظرهم الشباب حتى تجمعوا في مكان واحد كي يرتاحوا فضربوهم بقذيفة آر بي جي 7 وبالرشاشات وقد تم تصوير كل مراحل العملية حتى تلك التي ظهرت فيها عقبات حالت دون تنفيذها كمرور راع قرب الكمين.

      بعد المحاولة الثالثة الناجحة، انسحب الشباب باستثناء فارس الذي فضل البقاء ومحاولة الحصول على المزيد من الصور الجميلة، وبعد عدة ساعات، وكان الطريق قد خلا من الحواجز اليهودية هبط إلى الطريق العام، وفضل العودة إلى معركة في سيارة إن أمكنه ذلك، ولم يطل به الوقت فسرعان ما مرت سيارة أقلته إلى وادي جيلو، ولحسن حظه كان طريقها يمر عبر وادي الحظايا فبقي معها، وعلى مفترق طيردبا معركة وقعت المفاجأة، فقد أوقف السيارة حاجز يهودي وأنزل فارس من السيارة، وفي يديه دليل إدانته.

-      ماذا تعمل؟

-      أنا مصور حفلات وأعراس!

وفيما كان اليهودي يقلب الكاميرا بين يديه، فلم يكن معه فيديو لكي يرى الفيلم، كان فارس حاوي يستمر في الحديث عن مواهبه!  

-      وأنا أصور أيضاً الحفلات الراقصة!

وأمام اليهود المندهشين وهم بين ضاحك ومتعجب، أخذ فارس حاوي يرقص رقصاً إفرنجياً على طريقة الديسكو وهو يفرقع بأصابعه ويصفق بيديه، فسارع الضابط إلى إنهاء هذا المشهد.

-      هيا! إذهب من هنا!

-      يا إخوان أريد الوصول إلى معركة إذا سمحتم!!

قالها لسائق السيارة التي أقلته، فسارع إلى القبول بطيبة خاطر، وكان أول المشاهدين لفيلم الفيديو وأول من استمع لقصة فارس حاوي في معركة خليل جرادي الذي أشار إلى ساجد بدون أن يسميه في تصريح له إلى الصحافة فيما بعد (إن المقاتلين الذين يخاطرون بأرواحهم يرفضون ذلك، وإن معظم هجماتهم قد صوروها بفيلم).

      بعد أيام، على طريق طيردبا صور وعند مفترق الحمادية كمن صالح حرب ومحمد زيدان وأبو داود أحمد شعيب من الشرقية، وفارس حاوي الذي كان يصور العملية.. وكان الجنود الصهاينة قد وضعوا حاجزاً على الطريق العام، فأخذوا يراقبونهم من بين أشجار الليمون وقد أحاطوا بهم من جهات ثلاث وفارس حاوي يصورهم، إلى أن مضت ساعة والشباب صامتون لا تصدر منهم حركة، ثم أخذ الجنود بعدها يتجمّعون ويصعدون إلى المجنزرة، وفيما هم في حالة ممتازة من عدم الحذر والفوضى، بين من قد صعد إلى ومن زال ينتظر دوره خارجها وقف صالح حرب بقامته المديدة منتصباً في لحظة، وقد وضع القاذف تحت إبطه ومع صرخة (الله أكبر) انطلقت القذيفة لتستقر في قلب الملالة، بينما كان بقية الرجال يمطرونها بوابل نيرانهم.. وقد التقط فارس حاوي كل الصورة ابتداء من انطلاقة القذيفة من تحت إبط صالح حرب إلى استقرارها وانفجارها في الملالة.

      وعلى صدى الصراخ والسباب والشتائم، ودخان الآلية الملتهبة، كان الشباب لا يلوون على شيء باتجاه معركة، وكان فارس حاوي أشدهم فرحاً، فقد التقط اليوم صورة وصور مشهدا من أجمل مشاهد المقاومة، فكان يحتضن آلة التصوير ويركض كأم تحتضن رضيعها، وهو يرسم في ذهنه صورة لحجم الدهشة التي سوف ترتسم على وجوه الشباب عندما يشاهدون الفيلم.

      ولكن الرياح كادت تأتي هذه المرة على خلاف ما تشتهي السفن، فقد فوجئ فارس بالكاميرا خالية من الفيلم، ولم يصدق عينيه!

لقد وقع فيلم الفيديو خلال الانسحاب السريع، ولكن أين؟؟

      وانقلب جو الفرحة بالعملية الناجحة إلى مجلس عزاء، وجلس فارس حاوي يبكي بحرقة، كأم ثكلى فقدت وليدها الوحيد، وجلس الشباب حوله يعزونه، ويعدونه بأنه سوف يصور عملية أعظم من هذه إن شاء الله.

-  ولكن صورة صالح وهو يرمي القذيفة من تحت إبطه كانت رائعة جداً!! قالها فارس وكأنه يخاطب صالح حرب الذي لطهارته المطلقة، حدق في عيني فارس حاوي وقال:

-      وحياتك، في المرة القادمة، كرمالك سوف أميها وراني!

ومضت تلك الليلة الحزينة وفارس جالس صامتاً، يحاول حصر تفكيره في المنطقة التي يحتمل أن يكون الفيلم قد وقع فيها، وكاد يمضي اليوم التالي بكامله، وإذا بضيف اعتادوا أن يزورهم، إنه خليل جرادي، قائد الجماهير في معركة.

-      هل أضعت شيئاً يا أخ ساجد؟

وبينما كان فارس يتأمل في عيون خليل الطاهرة وفي قسمات وجهه التي ارتسمت عليها ضحكة، وهو لا يكاد يصدق أذنيه، لم يترك خليل يفكر كثيراً وأخرج فيلم الفيديو من جيب سترته وقدمه إلى فارس حاوي، الذي اندفع يحتضن خليل ويقبله في جبينه.

-      لقد جاء به أحد المزارعين بعد أن وجده في البستان.

وتحققت أمنية فارس، فقد جلس الجميع يشاهدون الفيلم وكان خليل جرادي أيضاً أول المشاهدين.

      وعندما اعتقل الإسرائيليون صالح حرب بعد هذه العملية بأشهر، وكانوا قد حصلوا على شريط الفيديو أثناء مداهمة معركة في 13 كانون الأول 1984 أروه الصورة، فكبر صالح ثانية، هناك رجال بين المخابرات، فانهالوا عليه ضرباً وهم يصرخون:

من تحت باطك يا مخرّب بتصيب الملالة؟!

      وبعد عدة أيام أنجز خضر الجوني ومحمد حدرج استطلاع موقع معروب للعدو الإسرائيلي، وما إن هبط الليل حتى تحركت مجموعة رباعية كان معهم فيها أبو حسين وعادل الزين، وبعد دقائق من السير فاجأهم خضر الجوني بإشارة من يده فتوقفوا وأخذوا يتساءلون بهمس، ووصل الجواب أيضاً من خضر بهمس:

-      الظاهر أن اليهود عزمونا الليلة على العشا يا إخوان!

وصدرت من بعضهم ضحكة مكتومة!

- بلا مزح يا عمي وهل هذا وقته؟

لقد كان الضوء واضحاً في الجبل أمامهم وعلى طريقهم تماماً، ولم يدركوا كنهه ولا سببه، فربضوا في أماكنهم محتارين، ومضت ساعة وهم على هذا الحال من القلق وعدم القدرة على اتخاذ قرار، فقد كان الضوء بينهم وبين الموقع تماماً، وكان البرد والصقيع يكاد يقصّ عظامهم، وهنا اقترح محمد حدرج استخارة الله تعالى على الاستمرار في العملية فخرجت الاستخارة جيدة، فقرروا الاستمرار، وفجأة حصل ما لم يكن في الحسبان، فما إن تحركوا حتى انطفأ الضوء الذي سبّب لهم القلق، فواصلوا السير بحذر شديد وتباعدوا عن بعضهم، وهنا أيضاً طلب منهم خضر الجوني التوقف والانتظار التوقف والانتظار ريثما يتأكد من حقيقة الأمر، فربض كل في مكانه، ولم تمض دقائق حتى عاد يحمل خبراً مذهلاً:

-  يوجد أمامنا دورية إسرائيلية تتحرك باتجاه موقع معروب، علينا أن نلحق بها على وقع أقدامنا، وأرجو من الله أن يحقق لي ظني وأمنيتي!!

وعلى وقع أقدام الدورية الإسرائيلية وعلى صدى قرقعة سلاحها تسللوا بهدوء يتبعونها، وتحقق أمل خضر الجوني، فقد كانت الدورية تريد الدخول في موقع معروب، وعند مدخله تماماً انقضوا عليها بقذائف الـ (ب سبعة) والرشاشات والقنابل اليدوية فأخذ الموقع يرد عشوائياً في ظلمة الليل ويطلق القذائف المنيرة، ولكن الرجال كانوا ينسحبون بهدوء، وضحكة خفيفة من خضر الجوني:

-      الظاهر نحنا اللي كنا عازمينهم على العشا!!

وخلال انسحابهم التفتوا نحو الضوء، وكأن شيئاً كان يشدهم إليه، فإذا به يعود ثانية وفي نفس مكانه، في حضن الجبل!

-      الله أكبر! ما هذا الضوء؟

-  لا أدري! ولكني اعتقد بأن الضوء جعلنا نتوقف عن المسير باتجاه اليهود الذين كانوا يكمنون هنا، على طريقنا، والذين ضربناهم على مدخل الموقع، وإلا فقد كان مصيرنا لولا ذلك الضوء هو الوقوع في الكمين!!

أجاب خضر الجوني، وقد ترك جوابه المزيد من الحيرة في نفوس الرجال، وعادوا يحثون الخطى إلى معركة، وهم يلتفتون بين الفينة والأخرى باتجاه الضوء فيرونه مازال يلمع في حضن الجبل وفي وسط العتمة، ولم يحاولوا أن يعرفوا طبيعته، وبقي السؤال في صدورهم بدون جواب، واستشهدوا جميعهم بعد ذلك واحداً تلو الآخر، إلا واحد ما زال عنده هذا السؤال بلا جواب، وفي اليوم التالي كتبت الصحافة بأن رجال المقاومة يهاجمون موقع إسرائيلي في معروب وقد شاهد عيان سيارات الإسعاف تخلي الإصابات..


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net