متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
كمين طريق دير قانون النهر
الكتاب : قصص الأحرار ج4    |    القسم : مكتبة القُصص و الروايات

كمين طريق دير قانون النهر

 

      تركت عملية الرد على اغتيال مرشد النحاس أثراً في سلوك الدورية الإسرائيلية التي كانت تراقب الطريق الممتد من بلدة معروب شرقاً إلى المثلث غرباً على بعد ستة كيلومترات من الموقع الإسرائيلي في معروب.. فقد كانت الدورية مؤلفة من ملالتين مجنزرتين وثلاثة عشر جندياً صهيونياً تسير ببطء على هذا الطريق المنحدر في معظمه، وتقوم بتفتيش جانبيه بحثاً عن عبوات مزروعة أو سلاح أو رجال يكمنون، فكان أفرادها يسيرون مشاة بين الملالتين وقد تباعدت المسافة بينهم ويأخذ كل واحد منهم بالتنقيب على حواف الطريق وبين شجيرات العليق والتحديق في أشجار الزيتون..

      وغالباً ما كانت الدورية تصل إلى المثلث بين الساعة السابعة والسابعة والنصف صباحاً.. ثم تقوم المجنزرات بالاستدارة ويصعد الجنود إليها وتنطلق عائدة إلى موقعها في معروب..

      في صبيحة ذلك اليوم، وبعد أسبوع كامل على عملية العبوة التي قتلت جنديين إسرائيليين على طريق معروب المثلث، وأعلن في الصحف اللبنانية أنها كانت انتقاماً لاغتيال المخابرات الإسرائيلية لمرشد النحاس.. كان رضا حريري وحسن وهبي والشايب قد أنجزوا طمر أسلحتهم وتمويهها على بعد عشرين متراً من ذلك الطريق عند أسفل المنحدر الهابط من دير قانون باتجاه المثلث..

      كانت الخطة ترمي إلى تدمير المجنزرتين وقتل أفراد الدورية بالاشتباك القريب، فطمر رضا حريري القاذف المضاد للدروع على الطريق بحيث يستطيع تناول المجنزرة من خلفها.. وطمر حسين وهبي رشاشه المتوسط مع شرشوره في الجهة المقابلة من التلة وعلى تلة صغيرة أيضاً بعيداً عن الطريق عشرين متراً، وطمر الشايب رشيشه عند أسفل نقطة في رأس التلة الصغيرة كي يصيب أكبر عدد ممكن من أفراد الدورية، ثم كمن كل واحد منهم بعيداً خمسين متراً عن سلاحه المطمور وأخذوا يراقبون المنحدر الذي سوف تطل منه الدورية..

      لم تمض ساعة على شروق الشمس التي أخذت تلوّن رؤوس أشجار الزيتون بالأبيض الناصع حتى كانت أصوات المجنزرات تصل إلى آذان الرجال معلنة بصريرها بدء المعركة القادمة، وكلما دنا الصوت وعلا كلما ازداد الرجال التصاقاً بالأرض وإمعاناً في التمويه كي لا يظهر منهم شيء يفضح وجودهم..

      وظهرت المجنزرة الأولى تسير ببطء شديد وأخذت تتقدم باتجاه الكمين، ثم ظهرت الثانية وقد أخذ قرابة الثلاثة عشر جندياً يسيرون في الوسط بين المجنزرتين إلى أن اقترب الجميع من المنعطف الكمين وهنا توقفت المجنزرات عن السير وأخذ الجنود يدققون في كل شيء على حافتي الطريق فيقلبون الصخور ويبحثون بين الحجارة ويحركون شجيرات العليق ببنادقهم، ثم صعد بعضهم إلى التلة حيث الأسلحة المطمورة وأخذ يجول بنظره أمامه، تارة بين قدميه وطوراً يحاول إمعان النظر إلى ما بين شجيرات الزيتون واستمرت عملية التفتيش هذه ربع ساعة كان رجالنا يكتمون أنفاسهم خلالها وهم يحرصون على أن ينظموها بحيث لا يخرج صوت معها وعلى أن لا تصدر منهم أية حركة بينما كانوا بعيون كعيون الصقور، لا تكاد تطرف، يعدّون حركات الجنود ويرسمون صورة الهدف.

      انحدر الجنود من المرتفعين الصغيرين وعادوا إلى الطريق الإسفلتي وهم يرطنون بالعبرية ويضحكون بصوت عال، وعاد صرير جنزير الملالتين يصل بانتظام إلى أسماع رجالنا الرابضين، ثم تحرّكت الدورية مغادرة باتجاه المثلث كما كل يوم، وتحرك من مكانه بعد ذلك بقليل من الوقت رضا حريري ليتأكد من مغادرة الدورية منطقة الكمين، وما إن تأكد من ابتعادها حتى اندفع نحو سلاحه المطمور، في الوقت نفسه تحرك الشايب وحسين وهبي كل باتجاه سلاحه وحسب الخطة الموضوعة..

      لقد أنجز اليهود تفتيش المرتفعين ومحيط منطقة الكمين، وتأكدوا من خلو جانبي الطريق من الوجود المعادي لهم، وسوف يعودون بعد قليل من المثلث مطمئنين، وعلى الرجال الاستفادة من فترة ذهابهم وإيابهم ليستخرجوا الأسلحة ويحكّموا الكمين، فوصلوا خلال دقائق إلى مواضع أسلحتهم وبسرعة قاموا بإخراجها من مخابئها وبإزالة ما علق عليها من الأتربة وتجهيزها، وربض كل واحد منهم في المكان المحدد له في الكمين وحسب الخطة الدقيقة التي تعبوا في إعدادها..

      ومضت ربع ساعة وإذا بصرير المجنزرات يصل إلى مسامعهم عائدة، كانت هذه المرة مسرعة في العودة، ظهرت سرعتها في ارتفاع صوت الصريف وتسارعه وقوة هدير محرّكاتها وقعقعة الحديد.. والتقط رجالنا أنفاسهم وأخذت أصابعهم تتلمّس الزناد والقبضات وتتحسّس الأمّان وأنظارهم تبحث في أسلحتهم عن خلل محتمل في تجهيز بنادقهم تارة ثم تعود مسرعة إلى الطريق من جهة المثلث تارة أخرى..

      وظهرت المجنزرات بضجيجها وعجيجها واقتربت من منطقة الكمين ثم دخلتها وقد ازدحم متنها بالجنود.. كانوا هدفاً سهلاً، وكان رضا حريري منبطحاً والقاذف إلى جانبه، وعندما أصبحت على بعد ثلاثين متراً منه وقف ليرميها.. وهنا فجأة صادف فوق رأسه جذع شجرة زيتون.. لم يحسب له حساباً فاختل وضع القاذف وخرجت القذيفة زائغة لتنفجر تحت المجنزرة الثانية..

      لم ير بوضوح خط سير قذيفته، فقد لمعت ثم انطفأت بين الجنزيرين تحت الآلية، ولم يكن ممكناً في تلك اللحظة السيطرة على انطلاقتها فذهل من وقع المفاجأة، ولكن الذي أدهش الرجال أن الجنود الذين كانوا قد ازدحموا في المجنزرة، وبدلاً من أن يطلقوا النار، رفعوا أيديهم استسلاماً بمجرد سقوط القذيفة وبدون أن يصاب واحد منهم.. كانوا يرطنون بالعبرية وبعضهم بعربية ملحونة يطلب عدم إطلاق النار عليه، ولكن الشايب بصلية طويلة من رشيشه أردى ثلاثة منهم، بينما كان حسين وهبي يرمي بغزارة باتجاه جنود المجنزرة الأولى.

      وفي الوقت نفسه، وهو يعلم أن البطء في هذه اللحظات يساوي الموت، جهّز رضا حريري قاذفه ليطلق وخلال ثوانٍ قذيفته التي نثرت في الجو شواظاً لاهباً ثم استقر في داخل المجنزرة الثانية التي كان بابها الخلفي مفتوحاً فأخذ كل شيء فيها يتوجه بضراوة ويضيء ويطلق وميضاً مختلطاً بكتلة لهيب فأرعد الهواء وتمزق وارتج بصوت الانفجار، فالتهبت المجنزرة بكرة اللهب التي ملأتها وبالانفجار الذي طيّر الجنود المحتشدين داخلها إلى الخارج فتناثرت أشلاؤهم فكانوا شواءً إسرائيلياً في وجبة عاملية. وأخذ الشايب يرمي من رشيشه صلية صلية كل صلية ثلاث طلقات، كان هادئاً، ساكناً، غير مستعجل أبداً.. يصطادهم واحداً واحداً، يجول بنظره بسرعة بينهم فيردي كل حركة..

      بعد دقائق انسحب الرجال باتجاه معركة، القاعدة الآمنة لرجال المقاومة الإسلامية.. وفيما هم ينتقلون من ظل شجرة زيتون إلى ظل أخرى كي لا تراهم المروحيات التي أخذت تصل إلى المنطقة لتنقل القتلى والجرحى كانت مروحيات أخرى تمشط المنطقة وتدور محمومة تبحث عن الرجال بلا جدوى فقد كانوا قد أصبحوا على مقربة من معركة.. وفيما هم يدلفون إلى أحد البيوت فيها كان اليهود قد ألقوا القبض على مزارع وجدوه هناك بين أشجار الزيتون، ولكن سنّه ومنظره وبطء حركته أكد لهم عدم علاقته بالمعركة ولكنهم أحضروه إلى حيث احتشد الضباط والقادة اليهود.. فرأى بأم عينه وزير الدفاع في الكيان الصهيوني أريل شارون، وقد وقف مصفرّاً مذهولاً، ينظر إلى ست جثث مغطاة وإلى عدد من الجرحى يسبحون في دمائهم وقد انشغل بإسعافهم آخرون في حركة محمومة.. وبعد قليل جاءت سيارة صهريج ماء وأخذ شارون بنفسه يغسل الإسفلت وصاحبنا العاملي ينظر بعين الرضا والاطمئنان، فهل كان يحلم منذ نكبة فلسطين بيوم يرى فيه هذا المنظر؟!

- مش حرام دم يهودي هيك على الأرض..

      التفت العجوز إلى الضابط اليهودي الذي قال هذه العبارة.. ولكنه لم ينبس ببنت شفة إلا أن الجواب كان في داخله يهدر هدراً، وكانت أمنيته في قلبه أن يُقبل أقدام العامليين الذين مارسوا إزالة عين النجاسة بهذه الصورة وليس أيديهم فقط..

      وهكذا ففي خلال سبعة أيام وفي عمليتين لرجال المقاومة الإسلامية، خسر الصهاينة على طريق معروب المثلث ثمانية جنود وسقط لهم الكثير من الجرحى، وفي منطقة واحدة تقع في وسط المسافة بين معركة وبدياس، بلدة الشهيد مرشد نحاس الذي اغتالته المخابرات الإسرائيلية والذي أعلنت باسمه العملية الأولى في الصحف اللبنانية..

      وكانت قد أعلنت الصحف اللبنانية بعد استشهاد مرشد النحاس عن عملية انتقامية لقتله، وتعمّد الشباب في صيغة نشر الخبر الذي سربوه للصحف الإيحاء بروح الانتقام لقتله وذلك لتضليل الإسرائيليين وإبعاد نظرهم عن خلية المقاومة الإسلامية العاملة على الضلع الشمالي لمثلث الحديد أي طريق صريفا العباسية صور، ولكن الصهاينة، كما يظهر، بعد أسبوع واحد على تلك العملية، وبعد هذه الضربة الكبيرة التي تلقاها جيش الدفاع الإسرائيلي على كمين كوع الرعب غربي دير قانون النهر في 27 حزيران 84 ربطوا بين الإعلان عن العملية الأولى في الصحف اللبنانية وبين العملية الثانية.. فاستنتجوا بسبب ارتباط مرشد النحاس بتنظيم أمل أن المجموعة جاءت من معركة وأنها هي وراء هذا الهجوم الأخير مما أدى إلى القرار السريع بمداهمتها في الليلة التي أعقبت العملية الثانية.

      كانت تلك الليلة، ليلة الثامن والعشرين من شهر حزيران 1984، من ليالي شهر رمضان المبارك الذي هلّ هلاله على بلادنا فاستقبله العامليون وصاموا رغم حراب الاحتلال ورغم الهمجية اليهودية ورغم كل ما يحمله قتلة الأنبياء من حقد أعمى على الأديان السماوية..

      وفي البيت الذي آوى إليه الرجال، استيقظوا عند وقت السحر، وفيما هم بين مصلٍ وقارئ للقرآن ينتظرون طعام السحور الذي كانت تعده لهم عائلة صاحب البيت، فالاستيقاظ عند السحر عند العامليين لم يكن لتناول الطعام بمقدار ما يكون مناسبة للدعاء والصلاة ثم انتظار صلاة الصبح في جو مفعم بعبق الروحانية والرحمانية.. فوجئوا بصرير مجنزرات كثيف وإطلاق نار غزير مزّق سكون البلدة.. خالطه تكبير ترددت أصداؤه في ليل معركة.. فانقطع دعاء السحر في أوفاه، وغصت أفواه بلقمة الحلال واندفع رجال ونساء إلى الشوارع يكبرون ويهللون.. وكان البيت في وسط القرية وأصوات اليهود وعلائم الاشتباك معهم من قبل أهالي البلدة تصل من أطرافها إليه، وبسرعة كان رجالنا يغادرونه ويبحثون عن ملجأ.. فقد تبادرت إلى أذهانهم بسرعة أنهم مقصودون بهذا الاقتحام الجديد لمعركة وكانوا قد قدّروا ذلك قبل أن يخلدوا للنوم.. وفوجئوا فور خروجهم بأحد علماء البلدة الذي عرفهم فالتفت إلى الشباب حوله والذين كانوا بين من يحاول الاختباء ومن يتوجه نحو موقع المواجهة مع اليهود، وقال لهم:

-      خبئوا هؤلاء..

أطاعه الشباب، وأشار أحدهم إليهم بأن يتبعوه، فتبعوه يركض أمامهم ويخرج من زقاق ويدخل آخر، ثم قفز من فوق جدار وصعد إلى سطح، ووسط العتمة نزل على ركبتيه وأخذ يحبو ففعلوا مثله، وكان الظلام دامساً فلم يدروا أين أصبحوا وفي أي مكان يختبئون.. إلى أن أخذ الفجر ينبلج فصلوا في أماكنهم ثم أخذوا يتبينون المكان مع تسلّل أنوار الصباح، فإذا به قن للدجاج، وكان واطئاً وقد امتلأ بالدجاج والديوك والصيصان، ومع إشراقة الشمس أخذ يضجّ بسيمفونية عجيبة من أصوات الطيور، ولم تكن لعلعة الرصاص وأصوات التكبير قد هدأت طوال ساعات.

سكن أصحابناً في أماكنهم وسط الديوك والدجاج، ولم تمض ساعة بعد شروق الشمس إلا وقد تبينوا أهمية مخبئهم.. فقد وصل جندي صهيوني إلى السطح ووقف هناك يتأمل البيوت والأزقة المحيطة، ولم يدُر بخلده أن مجموعة من أخطر مجموعات المقاومة الإسلامية على بعد متر خلفه، ولم يخطر بباله أن ينحني قليلاً ويلقي نظرة داخل القن.. وبعد دقائق غادر المكان بينما مكث رجالنا ساعات طويلة إلى وقت العصر.. وطوال تلك الساعات لم يخل مجال السمع من أصوات الرصاص وصرير جنازير الملالات إلى أن بلغت الساعة الخامسة بعد الظهر حينما أطلت فتاة فتقدمت باتجاه قن الدجاج وانحنت تنظر في داخله، وكأنها كانت تعلم بأنهم هنا ثم أشارت إليهم:

-      قوموا واتعوني..

خرج الرجال وهم بالكاد يتنفسون الصعداء.. ثم أخذوا يمشون وراءها إلى أن دخلت إلى بيت عتيق، فعبرت الدار وعبروا وراءها ووصلت إلى باب فطرقته وفتحت بدون انتظار الإذن، وإذا بعجوز راقدة على فراش في وسط الغرفة فتقدمت منها الفتاة وطلبت منها القيام، فاستجابت العجوز وقامت بصعوبة بالغة والفتاة تساعدها ثم أبعدتها عن الفراش وأجلستها على كرسي عتيقة بقربها.. ثم اندفعت الفتاة بحماس ترفع الفراش من مكانه ثم تطوي الحصير، وإذا بمدخل مخبأ.

-      هل جاء اليهود إلى هنا يا ستي؟

-      نعم جاؤوا.. الله يجيب أجلهم ويقطعهم..

-      ماذا فعلوا؟..

-      دخلوا الغرفة، فرأوني مستلقية فخرجوا، الله يعمي قلبهم أكتر ما هوي معمي..

كل ذلك وسط دهشة الرجال، الذين استجابوا بسرعة لأمر الفتاة بالنزول، فتسللوا إلى داخل المخبأ، وإذا به قد امتلأ برجال المقاومة، كانوا خمسة عشر رجلاً واختلطت حينذاك عبارات الترحيب الممزوجة بالضحك والمزاح، وأخذوا يسألون القادمين عن الرجال الباقين، وعن نتائج الاقتحام اليهودي للبلدة ومن هو الذي استطاعوا اعتقاله..

***

نشط رجال المقاومة خلال أشهر الربيع من سنة 1984 وازدادت عملياتهم، وكثر الضيوف الذين يأتون إلى معركة لمدة يوم أو أسبوع أو شهر، فجاء أبو داود أحمد شعيب، والحاج أبو علي رضا ياسين، وأبو حسين الأسمر، وكانوا يشتركون مع المقيمين في العمليات ثم يعودون إلى أوطانهم، وخاطب يومها خليل جرادي قائلاً (نحن فخورون بأن نقول إن معركة هي بلدة مواجهة، معركة هي قاعدة للهجمات، وملجأ لمقاتلي المقاومة).

وقد تم ضرب القوات الإسرائيلية على طريق صريفا صور عشر مرات وهوجم الموقع الإسرائيلي في معروب مرتين، وانفجر لغم بآلية إسرائيلية غربي دير قانون النهر، وتم تفجير عبوة ولغم على مثلث صريفا شحور معروب فاحترقت آلية واعترفت إسرائيل بثلاثة جرحى، وكمن رجال المقاومة الإسلامية بين معروب ودير قانون النهر في عملية شارك فيها للمرة الأولى عادل الزين فاحترقت آلية في هذا الهجوم، وعلى مفترق العباسية الشبريحا زرع محمد زيدان وعادل الزين عبوة وكمنا من بعيد عنها لتفجيرها ولكنها لم تنفجر حين وصول الدورية واكتشفها اليهود الذين استطاعوا تفكيكها والاستيلاء عليها، وفي اليوم التالي وقبل بزوغ الفجر عادا بعبوة مزدوجة مؤلفة من عبوتين متصلتين، واحدة صغيرة وأخرى كبيرة، فعمقوا الحفرة للعبوة الكبيرة وزرعوا الصغيرة ظاهرة على سطح الأرض بعيدة عنها متراً.

   جاء اليهود إلى نفس مكان عبوة الأمس فوجدوا العبوة الصغيرة فتنادوا فرحين، لقد وجدوا عبوة ثانية في المكان نفسه!! وتجمعوا حولها وكانوا سبعة أو ثمانية جنود فقطعوا أشرطتها ورفعها أحدهم عن الأرض سعيداً فرحاً، وكان بقطعه لأشرطتها قد أشعل الثانية الكبيرة التي انفجرت فتبعثرت جثثهم، وكانت كارثة من الكوارث التي أصابت جيش الدفاع..

أما الطريق الدولي المار بصور فقد نال نصيبه من الكمائن والعبوات التي بلغت خمس هجمات ابتداءً من القاسمية شمالاً إلى طريق البياضة جنوباً..

وكان حظ طريق جويا البازورية كبيراً أيضاً، فضُرب العدو تسع مرات على هذا الطريق بين عبوة زرعتها مجموعة باتوليه وخمس عبوات زرعتها مجموعة طيردبا في مدخلي البازورية الغربي والشرقي وعلى طريق عيتيت وادي جيلو أدّى انفجارها إلى قتل جنديين وجرح أربعة من جنود العدو، أخلي المصابون من جرحى وقتلى العدو في إحداها بواسطة المروحيات، ووصلت ضربات الرجال إلى بلدة جويا حيث أطلقوا النار على دوريات العدو داخلها عدة مرات..

لقد كانت خريطة كل هذه الهجمات تشير إلى مركز تنطلق منه، ألا وهو بلدة معركة، وبعد مداهمة حزيران 84 الكبرى لهذه البلدة واعتقال مئة وخمسين من شبابها، وكلهم من غير المطلوبين أصلاً وممن لا دخل لهم في أعمال المقاومة، دخل صيف تلك السنة وقد تغيّرت كثير من الأمور السياسية والمعنوية والعسكرية، فقد تحول الموقف الشعبي العام في جبل عامل، وخصوصاً في مثلث الحديد، نحو الصدام والمواجهة اليومية مع العدو الإسرائيلي، مما ألهب حماس عامة الشباب فازدادت أعدادهم وارتفعت نوعية عملهم، وكثرت العمليات العامة ذات الصبغة الشعبية الحماسية خصوصاً مع استحداث العدو لمواقع له على الطرق الأربعة الرئيسة، فاستحدث موقع مثلث دير قانون العباسية الشهير، وموقع القاسمية، وموقع جويا، وموقع وادي جيلو، وابتدأ شباب القرى من مختلف الاتجاهات السياسية يشتركون في هجمات بالمدفعية والصواريخ وإطلاق النيران الغزيرة على هذه المواقع، فكانت هذه المواقع الثابتة وكأنها حقل رماية يمارس فيه شباب القرى من مختلف التنظيمات تدريباتهم بالذخيرة الحية، مما كان يسبب الكثير من الخسائر يومياً للاحتلال ويدفعه للثأر والانتقام من هذه القرى، فيثير المزيد من الغضب والإصرار على المواجهة وعلى زيادة العمليات.. وهكذا اشتعل مثلث الحديد، وابتدأ نصيب معركة المداهمات والهجمات يكاد يصبح أسبوعياً إن لم نقل كل عدة أيام، وتحولت معركة إلى ساحة حماسية للقتال والمواجهات وأصبح كل طفل فيها وكل امرأة وكل رجل شريكاً في هذه المواجهات مباشرة أو غير مباشرة..


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net