متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
هلأ بنفرجيكم
الكتاب : قصص الأحرار ج4    |    القسم : مكتبة القُصص و الروايات

هلأ بنفرجيكم

 

      وبعد عدة أيام من الاستطلاع الدائم والمتكرر، أخذت صور العملية القادمة تتبلور، فقد كانت أوامر قيادة المقاومة واضحة جداً: تكبيد العدو خسائر فادحة على طريق جويا صور عبر البازورية، وكان الهدف القادم قافلة منتظمة تمر على هذا الطريق مؤلفة من ثلاث شاحنات، مرت على مدى ثلاثة أيام.. فلابد أن تمر في اليوم الرابع في الساعة نفسها..

      وما إن جن الليل حتى كانت السيارة تحتضن العبوة الكبيرة والأسلاك بانتظار انتهاء يوم العمل، ولم ينتظر عبد الحسن كي يبدل ثياب العمل فتوجه فوراً إلى عزيزته يبذل جهداً مضاعفاً وسريعاً من أجل تشغيل محرّكها الذي ما إن أطل الشيخ محمد زيدان حتى علا هديره وعجيجه..

      أخذت السيارة تنهب الطريق إلى البازورية غير مبالية بالحفر حتى الكبيرة منها، ثم تهادت لتتوقف في مدخل بستان على مفترق شارنيه، وبسرعة كان الشيخ وعبد الحسن يتعاونان على حمل صندوق بدا أنه قد امتلأ بالليمون، فيضعانه قرب الطريق ثم يأخذان بالتلويح للسيارات المارة.. ولم تمر لحظات إلا كانت شاحنة صغيرة تقلهما في صندوقها الخلفي، فكانا كعاملين من عمال البساتين، يعودان إلى بيتهما مع صندوق ليمون، كالعادة وكما يعود عمال البساتين إلى قراهم في جبل عامل مساء كل يوم..

      ما إن انطلقت الشاحنة بهما حتى أطلت شاحنات إسرائيلية محملة بالجنود أخذت تطلق أبواقها بإصرار وهي تقترب إلى أن أصبحت خلف الشاحنة الصغيرة التي لم تحد جانباً ولم تخل الطريق، فأخذ السائق اليهودي يطلق بوقه بإصرار فيما كان الجنود اليهود يكيلون الشتائم بمختلف اللغات.. فأخذ صاحبنا يخرج عن وسط الطريق تدريجياً بينما بادرت الشاحنات الإسرائيلية إلى التجاوز فيما كان الجنود يتلفظون بأقذع السباب للسائق ولهذين العاملين ويوجهون إليهما فوهات البنادق بقصد إخافتهم وإرعابهم وهم يضحكون بأصوات عالية ويهزأون ويطلقون صرخات هستيرية، ولم يصدر إلى جواب واحد من عبد الحسن، استعان عليه بإشارة من يده بحركة معروفة، وبدون أن يبتسم، وبكل جدية:

-      هلأ بنفرجيكم..

بعد قليل خفّفت السيارات العسكرية سيرها أمام موقع إسرائيلي لكي تقل المزيد من الجنوب مما سمح للشاحنة الصغيرة بأن تعود وتتجاوزها بسرعة.. وبعد مئتي متر أخذ الشيخ يخبط سطح الشاحنة فوق مقعد السائق بيده فتوقف وقفزا منها بسرعة وخفة مع صندوقهما الممتلئ (بالليمون)..

-      يسلموا ديّاتك .. مع السلامة.

وبينما كانت الشاحنة تنطلق مغادرة كان الشيخ وعبد الحسن يبادران إلى صندوق الليمون فيخرجا العبوة من تحت حبات الليمون ويأخذا بمدّ الأسلاك ووصلها بالبطارية فيما كانت طليعة الشاحنات الإسرائيلية تطل في أفق بعيد.

كانا يعملان بسرعة فائقة وبدون ارتباك.. فقد دخل المراس والتدريب والمعرفة الدقيقة بأصول العمل في حسن الأداء زرعاً وتوصيلاً ومدّاً، وبدقة عالية، غير مبالين بالناس المارين أو الذين أطلوا من بيوتهم، والذين كانوا بين متفرّج فضل البقاء ليرى ويعرف كيف يقتلون اليهود وبين من فضّل مغادرة المنطقة بسرعة ولعله ذاق قبل ذلك مرارة رد الفعل اليهودي بعد هكذا عمليات.. ولم يهتم عبد الحسن والشيخ باحتمال أن تكون الشاحنة الأولى قد أطلت وأنها سوف تلاحظ وجودهما أم لا.

ومع مدّ آخر متر من الأسلاك، ومع آخر توصيلة للبطارية وفيما كانت العيون تنتقل بين الأسلاك والطريق خوفاً من مرور القافلة قبل تجهيز العبوة.. مرت الشاحنة الأولى أمام أعينهم، وكانت طرفة عين لهما انتقلت بين الشاحنة والعبوة، وعادت عيونهما من صورة الشاحنة الأولى وهي تمر إلى عملية تجهيز العبوة بسرعة، ثم عادت بسرعة إلى الطريق، ومرت الشاحنة الثانية وكانت طرفة عين أخرى.. وهنا تجمدت عيون عبد الحسن عز الدين على الطريق، فإن الشاحنة الثالثة على بعد أمتار من العبوة، ولم يعد الشيخ إلى الالتفات، وهمس عبد الحسن:

-      يا إلهي .. يا رب..

وأصبح منظر الشاحنة في عينيه وهي تقترب من العبوة كصورة السينما البطيئة الحركة، وأخذ يعد السنتيمترات التي تتضاءل بسرعة بين الشاحنة والعبوة، ولم يعد ينظر إلى ما يفعله الشيخ محمد زيدان، وكأنه يئس وبقي عليه أن يودع هدفاً غالياً سوف يفوت بعد لحظات..

وعندما تطابق وسط الشاحنة مع العبوة.. اختلطت صرخة الشيخ محمد زيدان (يا حسين) بصوت رهيب صدّع الهواء والسماء والمكان والآذان، وبكرة هائلة ملونة من النار ارتفعت الشاحنة معها أمتاراً عن الأرض، ثم استقرت تنفث ناراً ودخاناً مختلفاً ألوانه يسر الناظرين، وتبدلت أسارير عبد الحسن عز الدين.. فيما كانت صرخات اليهود وعواؤهم وسبابهم تتسرّب بين أنقاض الشاحنة التي أخذت تأكلها النيران ويتصاعد منها دخان أسود كثيف..

وقبل أن يتبادلا التهاني انهمر الرصاص عشوائياً، وكأن الجنود من الشاحنات الأخرى كانوا يحاولون استدراك شيئاً، ولكن الشيخ ورفيقه كانا يغادران المنطقة بسرعة فيما الرصاص ينعف الأشجار..

وعندما لم يستطع عبد الحسن اللحوق برفيقه الذي كان أسرع منه وأخف.. اضطر، ولأول مرة وتحت الرماية الغزيرة، أن يخلع (مشايته) من رجله، وأن يضعها تحت إبطه، ويركض حافياً.. فقد أنجز اليوم جزءاً من المهمة الكبيرة التي أوكلت إلى خليتهم في طيردبا ألا وهو ضرب العدو على طريق جويا صور، وخلخلة حركة قواته، وتحويل هذا الطريق إلى طريق للموت بالنسبة إليه، وإجباره على استحداث مواقع ثابتة..

ومضت عدة أيام على تفجير العبوة التي أعلن العدو نتائجها بنفسه فقد اعترف بقتيل وجريحين.

وفي صباح بعد أيام، وفي بيت أحد أصدقاء المقاومة الإسلامية في طيردبا، حيث كانوا يرتاحون ويلتقون أحياناً أو يودعون أسلحة وذخائر، وكان عبد الحسن قد نام في ذلك البيت ولم يكن قد استيقظ بعد، فقد أمضى الليل ساهراً ونام بعد صلاة الصبح، كان الشيخ محمد زيدان أول القادمين هذا الصباح.

جلسوا حول السدر الذي زينته صحون اللبنة والزيتون والزعتر والعسل بانتظار أن يستيقظ عبد الحسن.. ولم تمض دقائق إلا وكان يدخل إلى حيث يجلسون وهو يفرك عينيه...

-      يا عمي هلكنا من الجوع ونحنا ناطرينك!!

-      إي يا خيي.. البرجوازية بيناموا للساعة عشرة..

-      تفضل يا أخ عبد الحسن إلى الترويقة، قال صاحب البيت...

ولكن عبد الحسن من شدة حيائه وخجله من صاحب البيت قال:

-      دايمة إن شاء اللهـ تروقت..

-      تروقت؟ متى؟ لقد كنت نائماً هنا واستيقظت الآن!!

صرخوا جميعاً، وانطلقت ضحكات، فيما كان عبد الحسن يذوب خجلاً وحياءًً..

كان الساعة العاشرة صباحاً، وكانوا يحتاجون إلى ساعة يتداولون فيها الأحداث، وفجأة طرق الباب.

إنه معلم البلاط!

قالت زوجة صاحب الدار الذي خرج لكي يستدرك شيئاً فلم يكن ينتظره أن يأتي في هذا اليوم بل كان موعد الشروع في عمله هو يوم غد، ولكنه فاجأه وهو يرمي بعدة الشغل داخل الدار، بعد أن سلم على الشيخ وعبد الحسن.

-  وجدت نفسي اليوم فارغاً بدون عمل، فقلت لماذا لا نشرع اليوم في تركيب المجلى ونكسب هذا اليوم بدلاً من أن نؤخره إلى غد..

ثم انصرف يخلع ثيابه ويرتدي ثياب العمل، بدون أن ينتظر جواباً، ولم يلاحظ الارتباك الذي بدا على تصرفات صاحب الدار الذي ما فتئ يلاحقه منذ شهر، متى سوف تأتي وتركب لنا المجلى؟ والمعلم يجيب دائماً: عندما انتهي من العمل الذي بين يدي.. وها هو قد جاء يلبي إلحاحه..

-      يا إلهي هذه الساعة..؟

قالها بصوت خفيض..

-      هل قلت شيئاً؟

-      لا! لا! بس..

-  بس شو؟ ولماذا تقف هكذا؟ هيا إذهب وأحضر الرفش حتى نكسب بقية نهارنا. ولا تنس إعداد الشاي..

وفيما كان المعلم يشرع في إعداد "الجبلة" كان الشيخ محمد زيدان يخرج مسرعاً مع عبد الحسن عز الدين الذي بادره:

-      أليس هذا وقت مرور الدورية؟

-  صحيح، وينبغي أن أعود بسرعة كي لا يقترن غيابنا السريع بانفجار العبوة.. فيجب عليك أنت الذهاب وأنا سأعود إلى البيت..

-      طيب، حاضر .. يا الله، سلام عليكم.

-      وعليكم السلام.. انتبه جيداً.

-      ولا يهمك..

وفيما كان عبد الحسن يغادر القرية كان الشيخ يقفل عائداً إلى البيت الذي كانا فيه، ثم يأخذ بصبّ أكواب الشاي وهو يرمق بطرف عينه جهة البازورية. ومضت ساعة كاملة، كانت عليه كأنها دهر وهو يصغي، يريد أن يسمع ذلك الصوت.. وفجأة دوى صوت الانفجار وركض المعلم إلى الشرفة يرافقه الشيخ وصاحب البيت فيما بدا الدخان الأسود يتصاعد من موضع على الشارع العام عند مدخل قرية البازورية..

      وصرخ المعلم:

-      الله يعطيهم العافية، هيه، هيك الشغل! إن الله يكونوا قد توفقوا بهم!

وبعد لحظات كان المعلم يعود إلى عمله، والشيخ يساعده تارة، ويقف قرب النافذة أخرى ينتظر عودة عبد الحسن الذي أطل بعد مدة يمشي بهدوء وسكينة، ويدرج على الطريق الترابية وهو يحاول أن يضبط الإيقاع في مشيته بين وعورة الطريق وكثرة الصخور من جهة وبين النعل العتيق الذي كان يحتذيه من جهة أخرى، ثم يدخل بعد قليل إلى الغرفة حيث الشيخ والمعلم الذي ما إن رأى عبد الحسن حتى بادره هازئاً:

-  شو يا عبد الحسن!! أين ذهبت؟ الذي يراك ذهبت وعدت يظن أنك أنت الذي قمت بالعملية (وانفجر ضاحكاً)

-      وحّد الله يا عمي.. أنا زبون هيك شغلات؟

ورمق عبد الحسن الشيخ بطرف عينه ثم أومأ برأسه دلالة التوفيق فابتسم الشيخ وأردف

-      الأخ عبد الحسن كله خير وبركة..

وكان عبد الحسن يحتسي كوب الشاي قبل أن يبرد.. ولاذ بصمت عميق، فما هي فائدة الكلام طالما أن تبادل الحديث ولزوم الصمت سيان، فالاثنان معاً لا يستطيعان تغيير نظرة الآخرين إليه، وهو أصلاً لم يرد إثارة إعجاب أحد به، كما أنه لا يود أن يرضي كل من يحدثه، لقد كانت آثار الغرور هذه تقرفه دائماً ولم تكن لتستطيع دفعه لكسب ود الآخرين، بل كانت أحياناً تثير ضيقه وتنفره..

وهكذا كانت أيام مجموعة طيردبا في سباق مستمر مع العدو، إلى أن كان ذلك اليوم التاريخي، وقد أنجز محمد زيدان زراعة العبوة فيما كان عبد الحسن يراقب الطريق، وانسحبا بعيداً جداً عنها، حتى وصلا إلى طيردبا، وكان عبد الحسن طوال الطريق ساكتاً ينظر إلى الشيخ بين الفينة والأخرى، ولكنه لم يستطع السكوت طويلاً، فوقف وخاطب الشيخ مستغرباً:

-  كيف سنرى المجنزرة من هنا إذا أتت؟ لقد أصحبنا في وسط الضيعة، كذلك فإن الشجرات عالية، ولن تظهر لنا المجنزرة!!

وهنا انفجر الشيخ ضاحكاً، وكأنه يستفزه أو يهيئ لنا مفاجأة.

-      سوف ترى بعد قليل ما يسر قلبك!

بعد نصف ساعة، كان الشيخ وعبد الحسن على سطح منزل أهل الشيخ يلتهمان خبزاً طازجاً ومناقيش، وبينما كان الشيخ يراقب طريق البازورية بمنظاره المكبر، وصل إلى أسماعهما صوت الجنزير، فالتفت عبد الحسن إلى الشيخ بقلب.. فيما كان الشيخ يراقب موضع العبوة صامتاً، ثم همس في أذن عبد الحسن بعد أن ناوله المنظار:

-      هل لاحظت الأنتين؟ أنتين المجنزرة؟

-      يا الله! صرخ عبد الحسن بتعجب.. ثم أردف:

-      صحيح .. الله أكبر..

-      حينما يقترب من تلك الشجرة سنفجرها، إن العبوة تحت تلك الشجرة بالضبط!!

-      ولكن كيف؟ من هنا؟

قالها عبد الحسن وقد أنزل المنظار من عينيه وحدق في وجه الشيخ متسائلاً، وهنا أخرج الشيخ جهاز التفجير اللاسلكي، ودخلت المقاومة الإسلامية في تلك اللحظة عصراً جديداً من القتال، وعاد الشيخ يحدق عبر منظاره المكبر ويده على جهاز التفجير، وما إن اقترب الأنتين من الشجرة المميزة كانت علامة الشيخ حيث زرع العبوة ضغط على الزر وإيذاناً بافتتاح عصر جديد، وارتفعت كرة النار واللهب والدخان الأسود، ووصل الصوت الجميل والموسيقى إلى الآذن التي تحبه وتعشقه، وتطايرت المجنزرة.. وأعلنت إسرائيل في اليوم التالي مقتل جنديين قرب صور.

وبعد أيام، كان المنفذ الثاني لعملية التفجير اللاسلكي علي بدوي، فقد زرعها على مفترق رأس العين وربض بعيداً جداً عنها، وبعد أن ضغط على جهاز اللاسلكي ودوى الانفجار، لم يفر ويركض ويغادر المنطقة على وجه السرعة.. بل سارع على دراجته النارية يغادر مكانه.. وينهب الطريق الداخلية بين البساتين عائداً إلى حيث زرع العبوة وفجرها وقد توقفت السيارات المارة بسبب الآلية الإسرائيلية المحترقة التي أقفلت الطريق، وتجاوز السيارات بدراجته النارية حتى وصل إلى حيث كان الجنود يلملمون جرحاهم وقتلاهم فتوقف متسائلاً:

-      (شو في)؟؟ ما الذي يجري هنا؟؟

نظر إليه ركاب السيارات وهم يبتسمون بمكر.. وأجاب أحدهم:

-      فجروا فيهم عبوة وهربوا..

 


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net