رهان رابح
كان الظلام يفرد جناحيه على قرى جبل عامل، والأفق الغربي يشتعل بنور الشفق الأحمر، وثقل الحديد اليهودي يكبّل مفارق الطرقات حيث انتشرت دبابات الميركافا في دمامل حفرتها على جوانب المفترقات وقد أحيطت بالأسلاك الشائكة، فبدت وكأنها أورام ملتهبة متقيحة..
لاذ العامليون ببيوتهم ومدافئهم بينما كان الزمهرير البارد يطوف بين القرى والوهاد ويعبث بقوة بأغصان الأشجار وجذوعها وكأنه يريد اقتلاعها فتأبى عليه، فيصفّر هنا ويعول هناك.
وكانت سيارة علي بدوي الهابطة من قرية جبال البطم باتجاه قرية صدّيقين تنبض بعبق دفء الحرية رغم برودة المقود ورغم الهواء الذي كان يدخلها بسبب عدم إحكام إقفال زجاجها، وكان ضوءها الكاشف يسبقها وكأنه يريد أن يمحو أمامها الليل وينير الطريق.
وأضيء فجأة نور مصباح يدوي في وسط المثلث، بين البلدتين، ثم ظهرت تحت الأنوار الكاشفة خوذات وبنادق وأسلاك، عداء تاريخي مستحكم بين مرحب وبين علي، ومنذ بدء الدعوة الإسلامية كان اليهود وما زالوا!! هم العدو.
- حاجز يهودي طيار!!
- لا بتعرفني ولا بعرفك، إنت طلعت معي على الطريق وتريد الذهاب إلى صور، وإذا حصلت لي حادث فأخبر الإخوان فوراً، إنهم الآن في باتوليه، في بيت خالتي! هل تعرفه جيداً؟؟
- أكيد!
دار هذا الحوار بسرعة، بين علي بدوي ويوسف حدرج الجالس إلى جانبه، والذي كانت عيناه تحدقان بدهشة في الحاجز وما سوف تحمله الدقائق التالية، فيما رفع علي بدوي صوت الراديو فارتفع صوت أم كلثوم .. يا ظالمني!!!
كانت وجوه الجنود كأحجار جامدة غطست بين الخوذات والدروع الواقية، وكان ضوء مصباح السيارة المتوهج يخترق الصقيع ويعرّيها ويكشف زيفها.
لم يكن هؤلاء يعرفون تماماً متى تبدأ المعركة، لقد جاءوا إلى بلادنا باختيارهم وبدأوا القتال معنا، ولكن لم يعودوا هم الذين يقررون انتهاء هذا القتال، إنهم الآن ينتظرون متى سنطلق النار عليهم، ولعل كثيرين منهم يقومون الآن بآخر مهمة في حياتهم.
سلط اليهودي نور مصباحه في وجه علي بدوي!
عينان عسليتان تحدقان من خلف النظارات، والزّغب لم يملأ الخدين بعد ولم يصبح لحية، وشفتان معتدّتان بكبرياء عجيب وقد لفّتهما ابتسامة ساخرة.
وتنقّل ضوء المصباح في أرجاء السيارة، كرتونة زجاجات بيرة في الخلف!! وزجاجة مفتوحة على التابلوه! صوت أم كلثوم!! وقلبي من رضاك محروم
- وطّي الصوت.
- ..
- لوين رايحين؟
- إلى صور
- إنزلوا!
ترجلا، وتركا بابي السيارة مفتوحين، وقد أسبلا ذراعيهما نصف تسبيلة استهتاراً، وكان الجنود قد انتشروا بكثافة وأحيط الحاجز بسيارات مجنزرة مزوّدة برشاشات متوسطة، وأخذ الجندي يفتش علي بدقة، وسرعان ما وقعت يده على المسدس!
- ما هذا؟
- ما هذا؟ أنت بتعرف ما هذا! هذا مسدس!
- هات هويتك! (ورفع صوته بالعبرية منادياً الضابط الذي سرعان ما تقدم نحوهما من بين الجنود الذين كانوا يراقبون عملية التفتيش من بعد خطوات)
وتكلّم الضابط بعربية سليمة وهو يحدق في علي بدوي ويحملق فيه وفي ثيابه، بنطلون جينز وحذاء رياضة!! وما زال صوت أم كلثوم: تحيرني! وتهجرني! وتغضب لما قلك يوم يا ... يا .. يا ظالمني.
- من أين لك هذا المسدس؟
- هذا المسدس لخالد حالاوي
- وما هي علاقتك به؟
- أنا جهاد العبدالله وأنا أعمل معه!
- ومن هذا الذي معك..؟
- لا أعرفه! ركب معي على الطريق ويريد الذهاب إلى صور فالتفت الضابط إلى رفيق علي بدوي.
- إنت روح من هون! فل؟
- ولكن حلّ الليل ولم يعد هناك سيارات وأنا أريد الذهاب إلى صور مع هذ الرجل!
اعترض يوسف حدرج بلهجة فيها شيء من التوسل.
ولكن الضابط اليهودي قاطعه صارخاً:
- خلص!! روح!! هذا لن يذهب إلى صور! روح لوحدك.
ثم التفت إلى الجندي اليهودي وخاطبه بالعبرية.. فبادر الجندي إلى معاودة تفتيش علي بدوي وإفراغ جيوبه، فوجد مسبحة، وحجر مستطيل ناعم!
- ما هذا؟؟
- هذه سجدة للصلاة.
- أنت بتصلي؟؟
وبصوت كالهمس، يسمعه الضابط فقط، أحنى علي بدوي رأسه نحوه إشعاراً بأنه كلام خاص وقال له:
- طلب منا خالد أن ندخل إلى المساجد ونصلي مثل جميع الناس، وهذه الوسيلة الوحيدة حتى نعرف المشاغبين والمخربين.. طبعاً أليس كذلك؟
- طيب! ألا تحمل معك ورقة بالمسدس؟
وبادر علي إلى الجواب وبصوت خفيض أيضاً:
- حبيب قلبي أنت ما بتفهم!
- ما بفهم شو يعني؟ أجاب الضابط..
هنا رفع علي بدوي صوته
- يا حبيبي.. هذا الكلام ليس له نفع.. إنت بتعرف نحنا مجموعة تعمل مع خالد، المسدس اليوم بيكون معي وغداً مع واحد آخر وبعد غد مع واحد ثالث، ولا يمكن أن يعطي السيد خالد كل واحد بيحمل المسدس ورقة كل ما حمل هذا المسدس، شو هية هجمة عرب؟؟
ضحك اليهودي ضحكة كعويل الزمان وكصراخ امرأة عاقر
- طيب! نريد أن نسأل خالد عنك
- إسألوه! شو أنا عم أكذب عليكم؟
- ولكن سوف تبقى معنا حتى ننزل إلى صور!!
- إذن أنت لا تصدقني!! وهل أنا عندي مصلحة حتى أكذب عليك؟؟
التفت الضابط وخاطب الجنود بالعبرية.. فتقدم واحد وأمسك بعضد علي بدوي وحاول جره إلا أنه انتزع ذراعه من يده وحدجه بنظرة من عينيه
- على مهلك، قل لي إلى أين تريدني أن أذهب، وأنا أذهب بنفسي.
- إصعد إلى الشاحنة سوف تذهب معنا إلى صور.
قالها الضابط وانصرف حاملاً المسدس والسبحة والسجدة وإخراج القيد.. فيما كان علي بدوي يصعد إلى الشاحنة.
غادر يوسف حدرج مكان الحاجز، وأسرع الخطى سرعان ما مرّت به سيارة فتوقفت بمجرد الإشارة منه، وأدخل رأسه يخاطب السائق، وما هي إلا لحظات حتى كان يدلف داخلها وتنطلق بأقصى سرعة إلى باتوليه، حيث وقف علي سليمان وأبو جعفر يصغيان لكلام يوسف الذي أوجز القصة بكلمات مختصرة، وبعد إطراقة قصيرة من علي سليمان التفت إلى أبي جعفر:
- هل الدراجة النارية جاهزة لتأخذنا إلى صور؟
- أكيد
- إذن نتوكل على الله!
ولم تمض دقائق إلا وكان المجاهدان يسابقان الريح إلى صور وكان الوصول سهلاً، فلم يصادفا حواجز في الطريق، إلى أن وصلا إلى قرب بيت خالد، وفي لحظات أخرج علي سليمان ورقة صغيرة من جيبه وخط عليها بسرعة:
باسمه تعالى
إلى خالد علاوي
اعتقل اليهود علي بدوي فقال لهم إن إسمه جهاد العبدالله وإنه يعمل معك ومعه مسدس فإذا سألوك فإنك تعرف بماذا تجيب وإلا سوف يكون لنا معك حساب خاص ..
قفز علي سليمان مترجلاً بحركة خفيفة، وبهدوء توجه نحو بيت خالد، وبعد طرقة خفيفة على الباب، فتحت امرأة الباب ربع فتحة وأطلت بعينين خائفتين
- من تريد
- هنا بيت خالد حلاوي؟
- نعم!
- هل هو موجود؟
- نعم! .. من أنت حتى نقول له!
- إعطه فقط هذه الورقة!
استلمتها منه بسرعة، وبين انصرافه وإقفالها الباب وقراءة خالد للورقة كانت ثوان معدودة، اندفعت خلالها الدراجة النارية مزمجرة ووصل زئيرها إلى أذنه وقد أسقط في يده، فعلي بدوي هو المعني بالموضوع وما أدراك ما علي بدوي، وغص بريقه وطوى الورقة ووضعها في جيبه.. وغرق في مقعده متأملاً ساكناً.
وفي الليلة نفسها وقد أصبحت الساعة الثانية بعد منتصف الليل، وعلي بدوي جالس على كرسي في غرفة الميجر جلال، ضابط الاستخبارات اليهودية في منطقة صور! وضع الميجر سماعة الهاتف والتفت إلى علي وقال:
- إنت بتعجبني! قبضاي!
- ممنونك! و(بعد لحظات صمت) هل هناك شيء بعد؟ هل أستطيع أن أذهب إلى بيتنا؟
- أنا أحب أن أقول لك شيئاً!
- تفضل!
- طالما أنت تعمل مع خالد وهو يعمل معنا، فما رأيك أن تعمل معنا مباشرة؟؟ ونحن نكون تماماً على قدر خاطرك؟
- ما بقدر! لا أستطيع، متأسف
- لماذا؟؟
- لا أستطيع، فقد يغضب خالد مني!
- نحن نتكلم معه بخصوصك.
- ياخيي، بصراحة، خالد بيعطيني كثير
- نحن منعطيك أكثر
- يا أخي! خالد بيصرف علي طوال الشهر، بعدين، بيزعل
- نحن سوف نرضيه ونعطيك أكثر مما يعطيك هو!
- طيب، دعني أذهب الآن وأنتم اتفقوا معه، أنا الآن تعبان جداً وأحب أن أذهب إلى بيتنا، وغداً نتفاهم!!
وقف الميجر جلال ومد يده بإخراج القيد والسبحة والسجدة، وهنا حملق فيه علي بدوي وحدجه بنظرة حادة..
- وأين المسدس؟
- دع المسدس هنا، وسوف تأخذه فيما بعد!
وهنا عاد علي إلى الجلوس على الكرسي وقد تغيرت سحنة وجهه واشتدت لهجته واتخذ شكلاً صارماً وهو يخاطب الميجر جلال:
أنظر إليّ جيداً! تستطيع أن تبقي المسدس معك! ولكن لا تعود إلى الكلام معي ثانية!
- تصنع الميجور الابتسام، وأنه يملك روحاً رياضية فأخرج المسدس من صندوق أمامه ووضعه أمام علي بدوي وقال:
- ماشي الحال، خذ هذا المسدس، ولكن نحن على الوعد وسوف نلتقي غداً!!
- ماشي الحال، هيك الشغل!!
رافقه الميجر جلال إلى الباب، وبرباطة جأش أدار علي محرك سيارته بهدوء، لقد كان على ثقة بذكاء الشباب ومبادرتهم وسرعتهم، ومرت عليه ساعات من الرهان على الصبر والجرأة والذكاء والسرعة، وربح الرهان.
|