متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
عادل الزين
الكتاب : قصص الأحرار ج4    |    القسم : مكتبة القُصص و الروايات

عادل الزين

 

      لم يطل غياب عادل الزين في الولايات المتحدة التي هاجر إليها طلباً للرزق، فقد شدته ريح المقاومة التي أخذت تهب في جبل عامل، وبعد غياب قارب الثمانية أشهر وفي أواخر صيف عام 1983 صدرت الأوامر إلى علي بدوي وعلي سليمان ومحمد حدرج وأبي جعفر بالتوجه إلى جبل عام وباتخاذ بلدة (شحرور) قاعدة لهم.

      لقد كان الأمر يبدو للوهلة الأولى واضحاً وبسيطاً، فالفرقة القتالية والتلهف إلى المهمات الجريئة والمظفرة، والتكليف الشرعي المنقوش على لوحة القلب حتى ليكاد كل منهم يتحسسه كل لحظة وكأنه ورقة أوامر مكتوبة، كل ذلك محا القبح المعتاد للموت، والخوف الابتدائي من ميدان القتال..

      وكانت كلمة السر وعلامة الثقة بينهم وبين القيادة في بيروت عدة ليرات لبنانية قطعت نصفين، نصف معهم، وبقي النصف الآخر مع القيادة، حتى يثقوا بكل من يتصل بهم مبعوثاً من قبل قيادتهم..

      وكان على عادل الزين أن يزوّد المجموعة الأولى بالسلاح والذخائر والمال، وكانت الأوامر صارمة بعدم التهاون بالمعلومات والأسماء والتحركات والنوايا حتى مع أقرب المقرّبين، فقد أدركت القيادة من أول الطريق ضرورة وأهمية التكتم في صيانة العمل المقاوم واستمراريته، ولذلك فقد كان الكلام واضحاً مع عادل:

-      إن عليك أن تسلمهما السلاح والمال فقط، وهم يعلمان تماماً ما الذي ينبغي عليهما فعله.

-      كيف سأتعرف عليهما؟

-      بجمع قسمي الليرة، الذي معك إلى الذي معهما.

-      وأين سألتقي بهما!

-  سوف ينتظرانك على طريق البازورية قرب مطعم الفول يوم الجمعة الساعة الرابعة بعد الظهر.

كان تكتيك العمل العسكري للمقاومة في أول الطريق منسجماً مع تقطيع المجموعات المجموعات وعزلها عن بعضها البعض، بحيث لا تعلم كل مجموعة بالثانية إلى بمقدار الضرورة، وكان على كل مجموعة أن تنفذ عملها بدون أن تعلم المجموعات الأخرى حتى ولو كانوا في قرية واحدة وفي بيت واحد، والذي كان ينسق العمل بين المجموعات هو مسؤول المنطقة، فقد كان ينسق العمل العام ولكن التطبيق كان مع كل مجموعة على حدة..

      وفي يوم الخميس، وقبل الموعد بيوم بذل عادل الزين جهداً في إخراج الأسلحة والذخائر من مخبئها وفي تحاشي أنظار الفضوليين خلال نقلها إلى صندوق السيارة، وبقي عليه نقلها إلى النقطة التي حددتها القيادة حيث ستكون في متناول يد المجموعة الأولى، التي سوف يسلمها المال ويحدد لها مكان مخزن السلاح والذخيرة الجديد.. فقد كانت قيادة المقاومة حريصة على عدم تداخل الأمور وعلى بقاء كل حالة ضمن حدودها، ولكن كان على عادل أن يمر في طريقه إلى مكان التخزين الجديد على البازورية، وكان يوم الخميس..

      كان يتصبب عرقاً بكل جسمه، وقد أحس في بادئ الأمر، بشعور الاستعجال المندفع، وبأن المعركة مقتربة وتزحف بلا هوادة، وأنه إذا لم يستفد من كل ساعة فسوف يكون ضعيفاً مكشوفاً أما عدو يملك أكبر آلة جهنمية. ولم يستطع أن يتوقف ويستريح فسرت قشعريرة في جسده المبلل، تحت قميصه الملتصق بظهره، وتهادت سيارته على الطريق العالم للبازورية ثم انعطفت أمام المطعم لتحين التفاتة منه لشابين وقفا أمام المطعم وأحاطا بدراجة نارية لهما..

- يبدو عليهما الإيمان! (حدث نفسه) هل هما يا ترى؟ ولكن ماذا يفعلان هنا الآن واليوم الخميس وغداً الجمعة؟

      ولم يحر جواباً على نفسه بل تابع الطريق ساهياً يفكر تارة بهما وكيف سيفاتحهما بالموضوع ويعرّفهما على نفسه، ويفكر تارة أخرى في إنجاز مهمته هذه، فالسيارة تئن من ثقل حمولتها من السلاح والذخائر، حتى تجاوز البازورية ثم اندفع إلى داخل معبر شارنيه في طريق جانبية بين البساتين، ليفاجأ بعد لحظات بموكب إسرائيلي كبير وقد توقفت شاحنته في وسط الطريق، وترجل عشرات الجنود منها وانتشروا على جوانبه وبين أشجار الليمون..

      أوقف عادل سيارته بسرعة منذهلاً، وأخذ عقله يسرع في تحضير الأجوبة على الأسئلة التي سوف تطرح، ولفتت انتباهه إشارة من الضابط الإسرائيلي له بالتوقف، فأسقط في يده، لقد كان صندوق السيارة ممتلئاً بالأسلحة والذخائر والمتفجرات..

      وللحظات، وفيما كان يدرس احتمال العودة بسرعة، تقدم الضابط الإسرائيلي منه بينما كان هو يحدق فيه بوجوم، إلا أن أمراً في الضابط أثار نحواً من الاطمئنان في نفسه، فقد تقدم منه ضاحكاً، ثم فتح باب السيارة وطلب من عاد النزول منها بتودد وأدب جم.. وبعربية ركيكة اختلطت برطانة عبرية:

-      إذا بيسمح بينزل .. إذا بيعمل معروف!!

ونزل عادل مستجيباً بدون تردد فقد كان ثمن العناد صعباً، وكان شكل الضابط يثير احتمالاً مبهماً عنده.. ثم تطور الموقف بعد لحظات، فقد وضع الضابط يده على كتف عادل الزين، وقارب رأسه من رأسه وهو يضمه إليه وسط دهشته الشديدة..

-      إنت حبيبي! أنا بحبك!

قالها الضابط، بينما عادل مازال متخرسناً من الدهشة وهو يسير برفقته، فماذا هذا الحب المفاجئ الذي يعبر عنه هذا الذئب؟! حتى توقفا أمام آخر آلية من آليات القافلة العسكرية، وإذا بالضابط يشير إلى كومة من النفايات إلى جانب الطريق وقد تدحرجت عنها صفيحة كبيرة مقفلة واستقرت قرب الإسفلت ويطلب من عادل راجياً أن يذهب ويلقي نظرة على هذه الصفيحة ويقلبها ويرى ماذا يوجد بداخلها..

علم عادل حينئذ سر الأدب الجم واللطافة الزائدة عند الضابط اليهودي، فقد كان مذعوراً من منظر هذه الصفيحة، وخاف أن تكون عبوة مزروعة للقافلة فانتظر أول القادمين من المواطنين، فكان عادل الزين، الذي لم يتردد في التوجه نحو (الصفيحة)، حيث ألقى عليها نظرة وكأنه يتفحصها ثم قلبها فوجدها فارغة، فرفعها بيده وألقاها على النفايات والجنود اليهود ينظرون إليه من بعيد وقد انبطحوا جميعاً أرضاً واختفوا خلف شاحناتهم وتعلقت عيونهم بيديه.. وما إن ارتفع صوت (قرقعة) السلاح والذخائر تحت حماية إسرائيلية، ولم تمر دقائق إلا وكان الموكب الإسرائيلي يتابع سيره فيما كانت سيارة عادل تتابع الموكب بهدوء على ذلك الطريق الضيق الذي لا يسمح بالتجاوز وقد امتلأ صندوقها بالأسلحة والذخائر والمتفجرات، وكانت ضحكته عريضة جداً وهو يرد التحية للجنود اليهود.. وخلال ساعة كانت الحمولة قد استقرت في المخبأ الخاص بمجموعة علي بدوي وعلي سليمان، وكان عادل يقفل عائداً عن طريق شارنيه البازورية وكأنه على موعدٍ مجهول وقبل أوانه، فقد كان نظره يسبقه إلى المطعم الصغير الخاص بالفقراء القابع إلى جانب الطريق العام للبازورية، حيث كان يقف الشابان ودراجتهما النارية بوجهيهما الصبوحين، لقد ظن عادل جداً أنهما هما، ولكن اليوم الخميس وغداً الجمعة!.. وقطع تفكيره منظرهما واقفين، واسترعى انتباهه وقوفهما كل هذه المدة فقوي ظنه بأنهما هما ولم يتردد في الترجل من سيارته متوجهاً نحوهما، وبكل جرأة بادرهما بعبارة غامضة..

-      اليوم الخميس؟

-      وغداً الجمعة (أجابا وهما يسبران غورعينيه بحثاً عن ضالتهما)

-      وماذا تفعلان هنا اليوم إذن؟

-      وماذا تفعل أنت أيضاً؟

كانت كل العبارات مجملة مقفلة تحتاج إلى مفتاح!

-      معكما ليرة.

-      إذا كان معك أنت ليرة.

-      معي نصف ليرة!

-      ونحن معنا نصف أيضا!

-      أعطياني النصف الذي معكما..

-      لا! أنت أعطنا النصف الذي معك!

واستغرقوا جميعاً في ضحكة كتغريد البلابل، وسحبا النصف الذي معهما، وسحب عادل النصف الذي معه، وقاموا جميعاً بتركيب ليرة لبنانية كانت قيادة المقاومة قد قطعتها نصفين في بيروت، وبمجرد اجتماع الليرة تبلّغا عنوان مخزن السلاح الخاص بمجموعتهما واستلما حصتهما من الميزانية وابتدأ في تلك اللحظة عصر جديد من المقاومة.


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net