بطلان القياس في تفسير آية الوضوء ـ بعض روايات الوضوء البيانية |
الكتاب :
القول المبين عن وجوب مسح الرّجلين | القسم :
مكتبة رد الشبهات
|
|
وقد احتج الخصوم لمذهبهم من طريق القياس، فقالوا: إن الارجل عضو يجب فيه الدية، اُمرنا بإيصال الماء إليه، فوجب أن يكون مغسولاً كاليدين.
وهذا احتجاج باطل وقياس فاسد؛ لان الرأس عضو يجب فيه الدية، وقد اُمرنا ____________ (48) الحسن بن يسار البصري، كان إمام أهل البصرة، وهو أحد العلماء الفقهاء العظماء الشجعان النساك، ولد بالمدينة وشب في كنف الامام علي عليه السلام، وسكن البصرة وتوفي بها في سنة 110هـ.
اُنظر: سير أعلام النبلاء 563:4، حلية الاولياء 131:2، وفيات الاعيان 69:2، تهذيب التهذيب 263:2. (49) محمد بن عبد الوهاب بن سلام الجبائي، من أئمة المعتزلة وإليه نسبت الطائفة الجبائية، اشتهر في البصرة وتوفي بها في سنة 303هـ.
وفيات الاعيان 267:4، الفرق بين الفرق :183، سير اعلام النبلاء 183:14، الملل والنحل 73:1، لسان الميزان 271:5. (50) محمد بن جرير بن يزيد الطبري، المؤرخ والمفسر، ولد في آمل بطبرستان، واستوطن بغداد وتوفي بها في سنة 310هـ.
سير أعلام النبلاء 267:14، تأريخ بغداد 162:2، وفيات الاعيان 191:4، تذكرة الحفاظ 710:2. (51) وقد وافقهم أيضاً ابن العربي والاوزاعي والثوري، وأوجب الناصر للحق من أئمة الزيدية وداود الاصفهاني الجمع بين المسح والغسل.
اُنظر: المبسوط ـ للسرخسي ـ 8:1، المجموع 417:1، المغني 150:1، البحر الزخار 67:2، الفتوحات المكية 343:1، الجامع لاحكام القرآن ـ للقرطبي ـ 91:6ـ 92، أحكام القرآن ـ للجصاص ـ 345:2، تفسير الطبري 83:6، أحكام القرآن ـ لابن العربي ـ 575:2، التفسير الكبير ـ للفخر الرازي ـ 161:11، الكشف عن وجوه القراءات 406:1.
وانظر: الخلاف ـ للطوسي ـ 90:1، مجمع البيان ـ للطوسي ـ 164:2.
(33)بايصال الماء إليه، وهو مع ذلك ممسوح.
ولو تركنا والقياس لكان لنا منه حجة هي أولى من حجتهم، وهي: أن الارجل عضو من أعضاء الطهارة الصغرى، يسقط حكمه في التيمم، فوجب أن يكون فرضه المسح، دليله الرأس(52).
فإن قالوا: هذا ينتقض عليكم بالجنب؛ لان غسل جميع بدنه واعضائه يسقط في التيمم، وفرضه مع ذلك الغسل.
وقد احترزنا من هذا بقولنا: إن الارجل عضو من أعضاء الطهارة الصغرى، فلا يلزمنا بالجنب نقض على هذا.
فإن قال قائل: فما تصنعون في الخبر المروي عن النبي صلى الله عليه وآله: أنه توضأ فغسل وجهه وذراعيه، ثم مسح رأسه وغسل رجليه، وقال:« هذا وضوء الانبياء من قبلي، هذا الذي لا يقبل الله الصلاة إلا به»؟
قيل له: هذا الخبر الذي ذكرته مختلط من وجهين رواهما أصحابك:
أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وآله توضأ مرة مرة، وقال:« هذا الذي لا يقبل الله صلاة الا به » (53) ولم يأت في الخبر كيفية الوضوء.
والاخر: أن النبي صلى الله عليه وآله غسل وجهه ثلاثاً، ويديه ثلاثاً، ومسح رأسه، وغسل رجليه إلى الكعبين، وقال:« هذا وضوئي ووضوء الانبياء من قبلي» (54) ولم يقل فيه :« لم يقبل الله صلاة إلا به » فخلطت في روايتك أحد الجزءين بالاخر لبعدك عن معرفة الاثر.
____________ (52) روي عن ابن عباس أنه قال: ما كان عليه الغسل جعل عليه التيمم، وما كان عليه المسح اُسقط، وروي عن الشعبي مثله.
اُنظر: أحكام القرآن ـ لابن العربي ـ 577:2، مجمع البيان ـ للطبرسي ـ 165:2. (53) سنن ابن ماجة 145:1|419، مسند الطيالسي:260|1924، سنن الدارقطني 79:1و 80و81، كنز العمال 454:9|26938و457 / 26957 431|26831، المبسوط ـ للسرخسي ـ 1: 9، الفقيه 25:1|76. (54) مسند الطيالسي: 260|1924، سنن الدار قطني 79:1و 80و81، كنز العمال 9: 454|26938 و 457|26957، المبسوط ـ للسرخسي ـ 9:1.
(34) وبعد: فلو كانت الرواية على ما أوردته لم يكن لك فيها حجة، لان الخبر إذا خالف ما دل عليه القرآن، وجب إطراحه والمصير ـ إلى القرآن دونه، ولو سلمنا لك باللفظ الذي تذكره بعينه، كان لنا أن نقول: إن النبي صلى الله عليه وآله مسح رجليه في وضوئه، ثم غسلهما بعد المسح لتنظيف، أو تبريد ونحو ذلك مما ليس هو داخلاً في الوضوء، فذكر الراوي الغسل ولم يذكر المسح الذي كان قبله، إما لانه لم يشعر به لعدم تأمله، أو لنسيان اعترضه، أو لظنه أن المسح لا حكم له، وأن الحكم للغسل الذي بعده، أو لغير ذلك من الاسباب، وليس هذا بمحال.
فإن قال: فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:« ويل للاعقاب من النار» (55) فلو كان ترك غسل العقب في الوضوء جائزاً، لما توعد على ترك غسله.
قلنا: ليس في هذا الخبر ذكر مسح ولا غسل فيتعلق به، ولا فيه أيضاً ذكر وضوء فنورده لنحتج به، وليس فيه أكثر من قوله:« ويل للاعقاب من النار».
فإن قال: قد روي أنه رآها تلوح فقال :« ويل للأعقاب من النار» (56).
قيل له: وليس لك في هذا أيضاً حجة، ولا فيه ذكر لوضوء في طهارة.
وبعد: فقد يجوز أن يكون رأى قوماً غسلوا أرجلهم في الوضوء عوضاً عن (57) مسحها، ورأى أعقابهم يلوح عليها الماء، فقال:« ويل للأعقاب من النار».
ويجوز أيضاً أن يكون رأى قوماً اغتسلوا من جنابة، ولم يغمس الماء جميع أرجلهم، ولاحت أعقابهم بغير ماء، فقال :« ويل للأعقاب من النار ».
ويمكن أيضاً أن يكون ذلك في الوضوء لقوم من طغام (58) العرب مخصوصين، ____________ (55) صحيح مسلم 1 : 214 / 241، صحيح البخاري 51:1، مسند أحمد 201:2 و471، سنن أبي داود 24:1|97، سنن النسائي 77:1، مسند الطيالسي:217|1552، تفسير الطبري 84:6. (56) صحيح مسلم 214:1|241، سنن النسائي 77:1، سنن ابن ماجة 154:1|450، تفسير الطبري 6 : 85. (57) في الاصل: من. (58) الطغام: أوغاد الناس.« الصحاح ـ طغم ـ5 : 1975» وفي الاصل: طغامة، وكلاهما بمعنى.
(35)كانوا يمشون حفاة فتشقق أعقابهم، فيداوونها بالبول على قديم عادتهم، ثم يتوضؤون ولا يغسلون أرجلهم قبل الوضوء من آثار النجس، فتوعدهم النبي صلى الله عليه وآله بما قال، وكل هذا في حيز الامكان.
ثم يقال له: وقد قابل ما رويت أخبار هي اصح وأثبت في النظر، والمصير إليها أولى، لموافقة ظاهرها لكتاب الله تعالى: فمنها: أن النبي صلى الله عليه وآله قام (59) بحيث يراه أصحابه، ثم توضأ فغسل وجهه وذراعيه، ومسح برأسه ورجليه (60).
ومنها: أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام قال للناس في الرحبة (61):« ألا أدلكم على وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله »؟
قالوا: بلى .
فدعا بقعب (62) فيه ماء، فغسل وجهه وذراعيه، ومسح على رأسه ورجليه، وقال: « هذا وضوء من لم يحدث حدثاً »(63) .
فإن قال الخصم: ما مراده بقوله :« وضوء من لم يحدث حدوثاً » ؟ وهل هذا إلا دليل على أنه قد كان على وضوء قبله ؟
قيل له: مراده بذلك أنه الوضوء الصحيح الذي كان يتوضؤه رسول الله صلى الله عليه وآله، وليس هو وضوء من غير وأحدث في الشريعة ما ليس منها.
ويدل على صحة هذا التأويل، وفساد ما توهمه الخصم: أنه قصد أن يريهم فرضاً يعولون عليه ويقتدون به فيه، ولو كان على وضوء قبل ذلك، لكان لم يعلمهم الفرض الذي هم أحوج إليه. ____________ (59) في الاصل: قال. (60) سنن أبي داود 41:1|160، كنز العمال 476:9|27042، تفسير الطبري 86:6. (61) الرحبة : قرية بحذاء القادسية على مرحلة من الكوفة .« معجم البلدان 33:3». (62) القعب : قدح من خشب مقعر. « الصحاح ـ قعب ـ 204:1». (63) تفسير الطبري 86:6، تفسير القرآن العظيم ـ لابن كثير ـ 28:2، الدر المنثور 262:2.
(36) ومن ذلك: ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام من قوله:« ما نزل القرآن إلا بالمسح »(64) ولا يجوز أن يكون أراد بذلك إلا مسح الرجلين، لان مسح الرؤوس لا خلاف فيه .
ومنه: قول ابن عباس رحمة الله عليه: نزل القرآن بغسلين ومسحين (65).
ومن ذلك: إجماع آل محمد عليهم السلام على مسح الرجلين دون غسلهما(66) ، وهم الائمة والقدوة في الدين، لا يفارقون كتاب الله عز وجل إلى يوم القيامة، وفيما أوردناه كفاية، والحمد لله.
|