الأثر التربوي للاعتقاد في البداء :
الاعتقاد بالمحو والإثبات ، وأن العبد قادر على تغيير مصيره بأفعاله وأعماله ، لا بد من أن يبعث الرجاء في قلب من يريد أن يتطهر ، وينمي نواة الخير الكامنة في نفسه .
فتشريع البداء ، مثل تشريع قبول التوبة ، والشفاعة ، وتكفير الصغائر بالاجتناب عن الكبائر ، كلها لأجل بعث الرجاء وإيقاد نوره في قلوب العصاة والعتاة ، حتى لا ييأسوا من روح الله ، ولا يتولوا بتصور أنهم من الأشقياء وأهل النار قدرا ، وأنه لا فائدة من السعي والعمل ، فلعلم الإنسان أنه سبحانه لم يجف قلمه في لوح المحو والإثبات ، وله أن يمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء ، يسعد من يشاء ، ويشقي من يشاء " وليست مشيئته جزافية غير تابعة لضابطة عقلية " لأن العبد لو تاب ، وعمل بالفرائض ، وتمسك بالعروة الوثقى ، فإنه يخرج من سلك الأشقياء ، ويدخل في صنف السعداء ، وبالعكس .
وهكذا فإن كل ما قدر في حقه من الموت والمرض والفقر والشقاء يمكن تغييره بالدعاء ، والصدقة ، وصلة الرحم ، وإكرام الوالدين ، وغير ذلك ، فجميع هذا من باب الرحمة الإلهية لأجل بث الأمل في قلب الإنسان ، وعلى هذا فالاعتقاد بذلك من ضروريات الكتاب وصريح آياته
وأخبار الهداة . وبهذا يظهر أن البداء من المعارف العليا التي اتفقت عليه كلمة المسلمين ، وإن غفل عن معناه الجمهور ( ولو عرفوه لأذعنوا له ) .
وأما اليهود - خذلهم الله - فقالوا باستحالة تعلق المشيئة بغير ما جرى عليه القلم ، ولأجل ذلك قالوا : يد الله مغلولة عن القبض والبسط ، والأخذ والإعطاء ، وبعبارة أخرى : فإنهم يذهبون إلى أن للإنسان مصيرا واحدا لا يمكن تغييره ولا تبديله ، وأنه ينال ما قدر له من الخير والشر . ولو صح ذلك لبطل الدعاء والتضرع ، ولبطل القول بأن للأعمال الصالحة وغير الصالحة مما عددناها تأثيرا في تغيير مصير الإنسان .
على ضوء هذا البيان نتمكن من فهم ما جاء في فضيلة البداء وأهميته في الروايات مثل ما روى زرارة عن أحدهما ( الباقر أو الصادق ( عليهما السلام ) ) : " ما عبد الله عز وجل بشئ مثل البداء " ( 1 ) .
وما روي عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) : " ما عظم الله عز وجل بمثل البداء " ( 2 ) . إذ لولا الإقرار بالبداء بهذا المعنى ما عرف الله حق المعرفة ، بل ويبدو سبحانه في نظر العبد ( بناء على عقيدة بطلان البداء ) أنه مكتوف الأيدي ، لا يقدر على تغيير ما قدره ، ولا محو ما أثبته .
ومن الروايات في هذه المعنى ما روي عن الصادق ( عليه السلام ) أنه قال : " لو يعلم الناس ما في القول بالبداء من الأجر ما فتروا من الكلام فيه " ( 3 ) .
|
( 1 ) البحار 4 : 107 باب البداء ، الحديث 19 ، 20 . ( 2 ) التوحيد للصدوق ، باب البداء ، الحديث 2 . ( 3 ) الكافي 1 : 115 ، التوحيد للصدوق ، باب البداء ، الحديث 7 . ( * ) |
| |
وذلك لأن الاعتقاد بالبداء نظير الاعتقاد بتأثير التوبة والشفاعة يوجب رجوع العبد عن التمادي في الغي والضلالة ، والإنابة إلى الصلاح والهداية .
البداء في مقام الإثبات إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم : أن المراد من البداء في مقام الإثبات هو وقوع التغير في بعض مظاهر علمه سبحانه ، فإن لعلمه سبحانه مظاهر ، منها : ما لا يقبل التغيير ، ومنها ما يقبل ذلك . أما الأول : فهو المعبر عنه ب " اللوح المحفوظ " تارة وب " أم الكتاب " أخرى ، قال سبحانه : { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } ( 1 ) . وقوله تعالى : { وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ } ( 2 ) . وقال سبحانه : { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } ( 3 ) . فاللوح المحفوظ وأم الكتاب يمكن التعبير عنه بأنه ذلك الكتاب الذي كتب فيه ما يصيب الإنسان طيلة حياته من بلايا وفتن ونعيم وسرور بشكل لا يمكن أن يتطرق إليها المحو والإثبات قدر شعرة ، ولأجل ذلك لو تمكن الإنسان أن يتصل به ، لوقف على الحوادث على ما هي عليه بلا خطأ ولا تخلف .
أما الثاني : فهو لوح المحو والإثبات الذي أشار إليه سبحانه بقوله : { يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } ( 4 ) فالأحكام الثابتة فيه أحكام معلقة على
|
( 1 ) البروج : 21 - 22 . |
( 2 ) الزخرف : 4 . |
( 3 ) الحديد : 22 . |
( 4 ) الرعد : 39 . ( * ) |
| |
وجود شرطها أو عدم مانعها ، فالتغير فيها لأجل إعواز شرطها أو تحقق مانعها ، فمثلا يمكن أن يكتب فيه الموت نظرا إلى مقتضياته في الوقت المعين المتصل بالمقتضيات ، إلا أنه ربما يمحى ويؤجل ويكتب بدله توفر الصحة ، لفقدان شرط التقدير الأول أو طرو مانع من تأثير المقتضي .
فالتقدير الأول يفرض لأجل قياس الحادث إلى مقتضيه ، كما أن التقدير الثاني يتصور بالنسبة إلى جميع أجزاء علته ، فإن الشئ إذا قيس إلى مقتضيه - الذي يحتاج الصدور منه إلى وجود شرائط وعدم موانع - يمكن تقدير وجوده ، بالنظر إلى مجموع أجزاء علته التي منها الشرائط وعدم الموانع ، ويقدر عدمه لفرض عدم وجود شرائطه ، وتحقق موانعه .
إذا علمت ذلك فاعلم : أنه ربما يتصل النبي أو الولي بلوح المحو والإثبات ، فيقف على المقتضي من دون أن يقف على شرطه أو مانعه ، فيخبر عن وقوع شئ ما ، ولكنه ربما لا يتحقق لأجل عدم تحقق شرطه أو عدم تحقق وجود مانعه ، وذلك هو البداء في عالم الإثبات .
وإن شئت قلت : إن موارد وقوع البداء حسب الإثبات من ثمرات البداء في عالم الثبوت ، ولم يرد في الأخبار من هذا القسم من البداء إلا موارد لا تتجاوز عدد الأصابع ( 1 ) ، نشير إليه بعد الفراغ عما ورد في الذكر الحكيم .
|
( 1 ) السيوطي ، الدر المنثور 5 : 280 . ( * ) | |
|